سوق الجمعة.. تجاره من ذوي الدخل المحدود

انطلق في دمشق قبل نصف قرن بشكل بدائي وانتشر في باقي المدن

سوق الجمعة الأقدم في منطقة الشيخ محيي الدين («الشرق الأوسط»)
TT

انطلق قبل حوالي 50 سنة من منطقة الشيخ محيي الدين على سفوح جبل قاسيون بالعاصمة السورية دمشق، ومنذ ذلك الوقت أخذ تسميته الشهيرة «سوق الجمعة».

ضم هذا السوق في بداياته بائعي الخضار والمكسّرات والمواد الغذائية بأسعار رخيصة جداً قياساً لأسعارها في المحلات. وصار يعرف بـ«سوق الدراويش» كون معظم زبائنه من الفقراء ومتوسطي الحال وأصحاب الدخل المحدود، وكذلك كونه يجاور مقام وجامع الشيخ محيي الدين المتصوف الشهير و«أبو الدراويش» كما يلقبه أصحاب الطرق الصوفية في دمشق.

ويقول البائع تحسين حسامو لـ «الشرق الأوسط»، وهو يشغل محلاً ثابتاً حالياً في السوق: «أنا من معاصري انطلاق سوق الجمعة. فقد انطلقت الفكرة من وجود سوق مؤقت يبدأ صباح يوم الجمعة من كل أسبوع ويستمر حتى المساء، وكانت الغاية منه عرض المواد الاستهلاكية بسعر الجملة بحيث يشتريها المصلون الوافدون على جامع الشيخ محيي الدين، وهم كثر خاصة أيام الجمعة. وكان الإقبال عليه كبيراً ومن كل مناطق دمشق... وحتى من الأغنياء الذين شعروا بفوارق الأسعار ما بين سوق الشعلان المعروف بـ«سوق الغلاونجية» وبين سوق الشيخ محيي الدين. وصار يأتون كل يوم جمعة لشراء حاجتهم من الخضار وغيرها، ويعودون إليه يوم الجمعة التالي. وظل السوق قائماً إلى ما قبل عشرين سنة حين ضاق المكان وما عاد يتسع للبائعين، فتركوه وانتقلوا إلى مكان أوسع بالقرب من سوق الهال القديم بوسط دمشق». ويتابع حسامو روايته فيقول «لكن سوق الهال القديم أيضاً ضاق بدوره بباعة وزبائن سوق الجمعة لينتقلوا قبل خمس سنوات إلى منطقة الدخانية، خارج حدود المدينة، ثم ضاق هذا المكان أيضاً عليهم، ليرحل السوق قبل أشهر قليلة إلى منطقة الدويلعة عند الأوتوستراد العريض بمنطقة الكبّاس، وليطوّر أيضاً معه العارضون بضاعتهم، بحيث حوّل الكثير منهم سوق الجمعة إلى مصدر دخل دائم لهم. كما تحوّل عدد كبير من الفقراء وأصحاب الدخل المحدود إلى تجار في السوق وبشكل بدائي، فصار كل من يرغب ببيع أدواته المنزلية وفرش بيته بقصد التجديد أو الحاجة، يتجه إلى سوق الجمعة لعرضها حتى يأتي زبون ويشتريها بسعر زهيد بعد نقاش ومكاسرة مع صاحبها». اللافت في سوق الجمعة أنه استنسخت منه «أسواق جمعة» أخرى في معظم المدن السورية، ومنها ما صار يعرف بسوق الاربعاء أو سوق الخميس، وهذا الأخير أصبح عرفاً دائماً وهو انه تخصص في كل المدن السورية بتداول الطيور والحمام، ذلك أن غالبية زبائنه من هواة تربية الحمام أو «الكشّيشة» أو المتاجرين بالطيور. كذلك تفرع عن سوق الجمعة سوق متخصص آخر ببيع الدراجات الهوائية المستعملة وأخذ من منطقة الزبلطاني مكاناً له، وأصبح يستقطب الباعة والمشترين ومعظمهم من الأطفال وطلبة المدارس مع أسرهم.

كذلك لم يعد سوق الجمعة يستقطب فقط باعة الأدوات المنزلية، بل غدا زائره يشاهد بضائع جديدة من غرف النوم والأدوات الكهربائية ومستلزمات العديد من أصحاب المهن. إذ يمكن للحداد ان يتجه للسوق ويشتري عدة الحدادة منه، وكذلك الكهربجي والدهان وغيرهم. وتباع كل هذه المستلزمات والأدوات بأسعار أدنى من أسعارها في المحلات العادية النظامية. بسام حمد، أحد الباعة في سوق الجمعة بمنطقة الكباس، يبرّر عرضه الأدوات الكهربائية المنزلية الجديدة بسعر منخفض، قائلا «أنا أتعامل مباشرة مع مورّد لها من الصين. وهو يقول لي إذهب وبعها بسعر الجملة واحصل على مربح جيد، ولكن هناك الكثير من التجار يضعون عمالاً لديهم في سوق الجمعة ليبيعوا البضاعة الكاسدة لديهم بسعر مخفض!».. وبينما نحن نتجول في السوق صادفنا أحدهم عرّف على نفسه بأنه «إياد»، وقال لأنه يعمل موظفاًً في المصالح العقارية. وتكلم مع بائع أدوات كهربائية، فاقترب منا وقال مبدياً لنا نصيحة مجانية بألا نشتري من هنا خاصة الأدوات الكهربائية لأنها غير مكفولة ولا يعيدها البائع في حال كانت معطوبة ودلل على ذلك بأنه اشترى مكواة من أحد باعة سوق الجمعة على أساس أنها تعمل بالبخار، ولكن في المنزل فوجئ بأنها عادية وقد غُدر بها وعندما عاد في الجمعة التالية للسوق لم يجد البائع وسأل زملاءه فقالوا له باع بضاعته وهرب ولن يعود؟... وليس إياد وحده مَن ينصح بعدم الشراء بل حتى جمعية حماية المستهلك ووزارة الاقتصاد السورية حذرت الناس من الشراء من هؤلاء الباعة الذين لا يملكون عنواناً ثابتاً ولا سجلاً تجارياً ولا شيئا يثبت مصدر بضاعتهم!..

مع هذا، كثير من الدمشقيين وزوار دمشق لا يأبهون لمثل هذه النصائح، فيأتون إلى السوق كل يوم جمعة بحثاً عن حاجتهم بسعر رخيص من جهاز خليوي أو غرف نوم وسفرة وضيوف... وحتى المكتبات والكتب يمكن أن يجدها هنا من يبحث عن كتب قديمة. وباعة المستعمل غالباً ما يأتون ببضاعتهم من حارات دمشق الراقية، حيث يجولون وعلى مدار الأسبوع بشاحناتهم الصغيرة ينادون من خلال بوق مركّب على الشاحنة «من يرغب ببيع الأشياء المستعملة أو التخلص منها» فيشترونها منه بسعر بخس جداً أو مجاناً إذ يقدمون خدمة لصاحبها - ويكون في العادة ثرياً - بنقلها من منزله إذا كان يريد تجديد أثاث المنزل. ويتجه هؤلاء بعد رحلة أيام في حارات دمشق إلى سوق الجمعة لبيعها هناك وتحقيق الربح الجيد. والطريف في هذا السوق العفوي البسيط أنه لا يعترف بالطرق الحديثة في البيع، وإنما يعتمد طرق بدائية في البيع والشراء وحتى المبادلة في البضاعة المعروضة. كما أنه يشهد إقبالاً كبيراً، ومنذ ساعات الصباح الباكر، فيتحول إلى خلية نحل... حيث الكل يدلل على بضاعته، والجميع يبحث ويسأل عن حاجته وتبرز المزادات. ومع ساعات المساء يخفض من لم يستطع بيع بضاعته السعر عله يجد زبوناً لها. ... وهكذا كل يوم جمعة تتحول منطقة الكبّاس والزبلطاني إلى أهم وأزحم منطقة تجارية في دمشق!