أم ياسين الفريوي: امرأة تقاوم حركة الزمن

حافظت على صناعة القش اليدوي في دمشق لـ 25 سنة

ام ياسين في محلها بسوق المهن اليدوية بدمشق («الشرق الاوسط»)
TT

قبل 25 عاماً قررت أم ياسين الفريوي، المرأة الريفية القادمة من جبل الشيخ جنوب العاصمة السورية دمشق، اقتحام سوق المهن اليدوية الذي أسسته وزارة السياحة السورية قبل عشرات السنين في قسم مبنى التكية السليمانية التاريخي وسط دمشق مقراً له ليحافظ على حرفيي دمشق اليدويين وحماية مهنهم التراثية من الانقراض وإشراكهم في مهرجاناتها ومعارضها السياحية المحلية والخارجية. وأم ياسين التي تجاوز عمرها حالياً الثمانين جاءت ومعها مهنة يدوية تراثية ريفية وهي صناعة أطباق وسلال القش من مخلفات القمح، والذي كان الأجداد والأسر القديمة يعتبرونه ضرورة لا بد منها لموائد الطعام ووضع المؤن الغذائية من برغل وخبز وغيرها ومن مستلزمات المطبخ الأساسية.

أرادت ام ياسين أن تحجز لها مكاناً في السوق الذي اتسع لحوالي مائة حرفي دمشقي، وبالفعل تمكنت من الحصول على دكان صغير في نهاية السوق، وكانت المرأة الوحيدة التي عملت في مهنة يدوية إلى جانب مئات الحرفيين الموجودين في السوق، الذين راهنوا على أن أم ياسين لن تستمر أكثر من أشهر قليلة وتترك الدكان والسوق والمهنة وتعود لقريتها الجبلية لتعمل هناك أطباق القش لأهل قريتها فقط، ولكن إصرار ام ياسين أدى إلى كسبها الرهان، إذ استمرت وما زالت منذ ربع قرن في عملها اليدوي في السوق. وهي على الرغم من كبر سنها مع بلوغها أعتاب الثمانين، إلاّ أنها تأبى أن تترك هذه المهنة اليدوية بل تسعى للمحافظة عليها رغم منافسة الأطباق الصناعية المعدنية والخشبية وغيرها لمنتجاتها اليدوية من القش. وفي محل ام ياسين بسوق المهن اليدوي الدمشقي، الذي تحول إلى أشبه ما يكون بمعرض ومتحف لمنتجات القش من أطباق وسلال وصوان ونماذج متنوعة بألوان زاهية براقة، قالت أم ياسين لـ«الشرق الأوسط» عن سر استمرارها في العمل الحرفي رغم المراهنات الكثيرة على عدم استمراريتها فيه: «منذ استثماري لدكان في سوق المهن اليدوية حاولت أن أتفرغ فقط لحرفتي الريفية، وهي تحويل قش القمح المتبقي من حصاد القمح إلى أوان وأطباق، وهي هواية ورثتها عن والدتي، ومعروف أن العديد من نساء الأرياف السورية يعملن بها ولكن بشكل محدود (مثل الخياطة والتطريز والصوف) فهي تعتبر تسلية وملبية لحاجة الأسرة وخاصة المطبخ وأدوات الطعام لوضع صحون الطعام والخبز عليها حيث تشكل ما يشبه طاولة السفرة حالياً ولكن على الأرض!.. وقررت منذ انتقالي إلى السوق أن أطور في هذه المهنة الهواية من خلال ابتكار أشكال جديدة من القش، وعملت في هذه الحرفة بشكل مباشر وحي أمام زوار السوق، ولم اكتف فقط بعرض ما أصنعه في زوايا المحل وواجهته، وكان هذا أحد أسباب استمراري فيها والإقبال الكبير من الزوار على مشاهدتي وأنا اعمل في تحويل قش القمح اليابس وبشكل فني ماهر تعلمته من والدتي ومن نساء قريتنا وجذبت بذلك بشكل خاص انتباه السياح وخاصة الأوروبيين منهم والذين التقطوا لي الصور الكثيرة وأجروا العديد من اللقاءات الإعلامية معي فأصبحت معروفة لدى الكثير من الأوروبيين وخاصة في اسبانيا حيث يوصون من يأتي لدمشق من السياح بزيارتي في السوق والسر في ذلك أنني كنت ألبي طلبات السياح بتصنيع نماذج خاصة لهم من أطباق القش حيث اعتبروها لوحات فنية إبداعية تراثية يتباهون بها أمام أصدقائهم عندما يعودون لبلدانهم، فمثلاً بعضهم يطلب مني أن أصنع له طبقا من القش وأكتب عليه اسمه واسم خطيبته أو زوجته أو عبارات أخرى مثل «عيد سعيد» وحتى وحسب طلب البعض منهم صنعت أكواخا صغيرة جميلة للعرض، وبالفعل استطعت أن أقوم بهذا العمل رغم صعوبته وحاجته لوقت وجهد أكبر من العمل العادي، ولكن اعتبرته من باب تطوير هذه الحرفة اليدوية والمحافظة عليها من الانقراض خاصة مع انتشار أطباق البلاستيك والنايلون والستانليس ستيل والألمنيوم وغيرها رغم أنها تؤثر بشكل كبير على منتجات القش اليدوية بسبب رخص أسعارها ولكن مازال لدينا الكثير من الزبائن حتى من سكان المدن والقرى السورية، فهؤلاء يفضلون منتجات القش على تلك المنتجات الصناعية كون أن القش مادة طبيعية وصحية وبيئية بينما البلاستيك ضار، وكذلك العديد من زبائننا هم من عشاق التراث أو ممن لديهم صالونات واسعة في منازلهم أو من الأثرياء الذين يرغبون بشراء منتجات القش لتزيين صالوناتهم بها باعتبارها لوحات فنية فلكلورية مكملة لديكور المنزل ويشترونها حتى ولو كانت مرتفعة الثمن قياساً بأسعار مثيلاتها البلاستيكية والمعدنية، والبعض من الزبائن يقول لي إنه يستمتع بوضع الخبز في أطباق القش المخصصة لذلك فهي تذكره بحياة القرية والأجداد، كما يعتبرها مفيدة صحياً كونها تتحمل الحرارة المرتفعة والبرودة بدون أي تأثير على صحة الإنسان بعكس المواد البلاستيكية والمعدنية». تتابع أم ياسين، بعد فترة صمت قليلة: «منذ استثماري للمحل في السوق وأنا ألبي دعوات وزارة السياحة وغيرها من الجهات المعنية بالشأن الحرفي اليدوي للمشاركة في معارض سياحية وتراثية خارج سورية وداخلها ولم يعقني كوني امرأة بل استطعت الحصول على شهرة واسعة من خلال مشاركتي بهذه المعارض، فعلى مدى ربع قرن شاركت بمهرجانات ومعارض في الامارات العربية المتحدة وفرنسا وفي كل دورات معرض دمشق الدولي السنوية وكنت أصنع القش أمام زوار المعرض الذين أعجبوا كثيراً بعملي التراثي. وحول مراحل العمل التي تحتاجها صناعة القش والحصول على المنتجات منها قالت أم ياسين: «بعد حصاد القمح نأتي بالمخلفات من البيدر ونختار منها القش الجيد، فليس كل قش يصلح للعمل، ونفضل هنا القش السلموني فهو الأجود ويتجاوب معنا بشكل أفضل، وأقوم بعد ذلك بعقد كل قشة على القشة الثانية وأضمها بشكل يدوي فني متقن (والطبق الواحد يحتاج لحوالي عشرة آلاف قشة لتحضيره).. في المرحلة الثانية آتي بوعاء فيه ماء وأضع فيه القش وفي هذه الأثناء أحضر الصبغات وأخلطها مع الماء وأغليها على النار حتى ينتج اللون الذي أريده وحسب الألوان التي يحتاجها القش حيث هناك 12 لونا أستخدمها وأمزج اللون بشكل متقن، وفي المحصلة ينتج معي طبق القش وبأشكال وألوان مختلفة وجميع مراحل العمل أقوم بها بشكل يدوي حيث لا تدخل أي آلة فيها مطلقاً، ولذلك فالعمل في القش يحتاج لطول بال وصبر ووقت طويل لذلك، فالعمل فيه خاص بشكل أساسي بالنساء الريفيات فالرجال لا يعملون به لأنهم لا يمتلكون وقت وصبر المرأة».