«قصر الهدوء وطول العمر» جوهرة صينية ثمينة

افتتاح أول القصور الإمبراطورية بعد عملية ترميم المدينة المحرمة في الصين

TT

مثل أي شخص بالغ عاقل، خطط الإمبراطور تشيان لونغ لفترة ما بعد تقاعده، وبدأ تشيان لونغ، وهو شاعر أشرف على توسع غير مسبوق في حدود الصين، في إقامة مكان له عام 1771، وهو في عمر 61 عاما، ليقضي فيه أعوامه الذهبية.

وعلى النقيض من أسلافه، الذين حكموا البلاد حتى توفوا أو أصيبوا بالعجز، تعهد تشيان لونغ، الإمبراطور الخامس في أسرة تشينغ الحاكمة، بالتنازل عن العرش وهو في عمر 85 عاما، والاستقرار في مكان متواضع نسبيا عن قصر المدينة المحرمة، التي يوجد بها قصر الإمبراطور الضخم المكون من 8.700 غرفة ويقع في مركز العاصمة الصينية.

وقد استعان بأمهر البناة في عصره واستغرق خمسة أعوام في إقامة مجموعة من الحدائق وغرف المآدب وقاعات الصلاة ومسرح يسع متفرجا واحدا. وكان «قصر الهدوء وطول العمر» معروفا بأنه مكان للتأمل وكتابة الشعر.

ولكن كما هو الحال مع الكثير من الرجال ذوي السلطة الكبرى والأنا العليا، رفض تشيان لونغ أن يغادر، وحتى بعد أن تنازل عن العرش لابنه، ظل حاكما قبضته على الإمبراطورية وبقي في القصر الملكي الشاسع في المدينة المحرمة. وتوفي وهو يبلغ من عمره 89 عاما، بدون أن يبيت ليلة واحدة في قصره التقاعدي.

وجاء أباطرة ورحلوا، ورفعت راية العصيان، ولكن لم تمس جوهرة تشيان لونغ الممثلة في المنزل الذي تبلغ مساحته فدانين. وفي عام 1924، عندما طرد الحكام المدنيين في الصين آخر إمبراطور من المدينة المحرمة، أغلقت بوابات قصر تشيان لونغ الصغير بالسلاسل وطواه النسيان.

وعلى مدى عقود، انتشرت روايات بين مؤرخي الفن حول ملاذ محفوظ يعود لسلاسة تشينغ، ويعلو عرشه المزخرف طبقات كثيفة من الأتربة. ووصل الحديث إلى مسامع الصندوق العالمي للآثار، وهو مؤسسة لا تستهدف الربح مخصصة لإنقاذ المواقع التاريخية في جميع أنحاء العالم. ومنذ عام 1965، رمم الصندوق عشرات من المعابد اليهودية في أوروبا الشرقية، وكاتدرائيات في أميركا الجنوبية، وكوخ بعثة إرنست شاكلتون الاستكشافية في أنتاركتيكا، ولكن كان القصر الصيني أمرا جديدا تماما.

تقول رئيسة الصندوق بوني بورنهام: «كان لدينا الكثير من الهواجس، وخاصة بالنسبة لتدهور حالة المكان، وكنا نتساءل ما إذا كان ذلك ممكنا».

وبعد مرور ستة أعوام وإنفاق 3 ملايين دولار على أول مبنى يتم ترميمه، تم الانتهاء من جناح جوان تشينزاي، أو مكان للاستراحة من الجهد الشاق. كانت هذه محاولة طموحة، زاد من تعقيدها التداخل الرقيق الذي يحدث عندما يجبر الصينيون والغربيون على التوفيق بين مشاعرهم المختلفة.

في دولة كان ترميم الآثار فيها غالبا ما يستلزم هدم المبنى وإقامة محله مبنى آخر طبق الأصل منه بألوان براقة، يعتبر جوان تشينزاي ما يشبه حجر الأساس. ويعد ترميم الجناح بأمانة نموذجا أصليا يأمل كل من المرممين الصينيين والأميركيين في صنع نسخة منه على مدار الأعوام الثمانية المقبلة، بينما يتم تجديد الـ 26 مبنى الأخرى. ويمول الجهود التي تبلغ تكلفتها 15 مليون دولار الأميركيين، ويقوم بمعظم العمل موظفو متحف القصر الذي يدير المدينة المحرمة.

ويساهم الأميركيون بتقنياتهم التي تطبق جيدا في الترميم، والصينيون بفهمهم العميق لأذواق تشيان لونغ المعمارية والاتجاهات الزخرفية. ويضم الفريق المعاون فنانين كبار السن ساعدت مهاراتهم النادرة على بقاء الثورة الثقافية، عندما كان الحرفيون التقليديون يعتبرون برجوازيين ومستحقين للعقوبة.

ووصف زينغ شينمياو، مدير متحف القصر، العملية المشتركة بـ«رسم منطقة مجهولة»، وقال بمناسبة الافتتاح في نوفمبر (تشرين الثاني): «إن هذا المشروع أعطانا خبرة نظرية وعملية».

ويقدم جوان تشينزاي، الذي سيفتح للعامة في الشهور المقبلة، مستوى من التفاصيل التي قلما توجد في المباني الصينية التاريخية، وهو عبارة عن جناح مستطيل بسيط، مكسو من الداخل بستائر مزخرفة شفافة، ومعلقات مرصعة باليشب، وأشكال زينة صينية مميزة محفورة في طبقة من الخيزران فوق خشب زيتان داكن. ويمتلئ الجناح بكراسي عرش منجدة، حيث يجلس الإمبراطور في أي مكان على عرش، ولوحات مزخرفة تحمل مقاطع مستوحاة من تشيان لونغ.

ويعد أروع ما في الجناح هو المسرح الخاص، الذي كان يقدم للإمبراطور مقعدا مريحا لمشاهدة شاكو، وهو شكل من أشكال الأوبرا التي ابتكرت وانتشرت في بكين في القرن الثامن عشر. وقد أصبح تشيان لونغ، الذي من المفترض أنه ألف 40,000 قصيدة، هاويا لشاكو، حيث كان يمضي ساعات طويلة في كتابة أبيات عن المناظر الطبيعية الحالمة، وجمع الزهور، والشراب القوي.

وبالنسبة لمؤرخي الفنون، فان أمتع عناصر جوان تشينزاي هي الجداريات البانورامية المرسومة على الحرير. ويتدلي نبات الويستريا من السقف، وتحلق الغربان فوق أسقف القصر المغطاة. ويعد المزيج الذي يجمع بين الرسوم الصينية التقليدية والنظرة الغربية واستغلال الخدع البصرية شهادة على تبني تشيان لونغ لغوسيبي كاستيغليون، الفنان الإيطالي والمبشر الذي عاش في بكين في ذلك العصر. وكان الإمبراطور مقتنيا شرها للأعمال وراعيا للفن، حيث كان يشجع الرسامين في بلاطه على دراسة أعمال كاستيغليون.

وبعد أن كان تشيان لونغ محل سخرية في الماضي بسبب أصول أسرته «البربرية» في منشوريا، التي لم تكن جزءا من الصين في ذلك الوقت، تمتع تشيان لونغ بشيء من النهضة في الأعوام الأخيرة.

وفي تلك الرواية الرسمية الجديدة، أصبح يمثل فترة من القوة العسكرية والثروة المادية قبل أن تستسلم الصين للفساد والنفوذ الأجنبي، وكما يرى العديد من الصينيين، المذلة القومية. ويقول غيرمي بارمية، أستاذ التاريخ الآسيوي في الجامعة الوطنية الاسترالية إنه على الرغم من بدايات سلالة تشينغ غير الصينية، تحول تشيان لونغ إلى حاكم صيني مثالي. ويرى بارمية، مؤلف كتاب «المدينة المحرمة» التاريخي الثقافي الذي صدر عام 2008 عن جامعة هارفارد، في إحياء اسم تشيان لونغ تحيزا، وخاصة في زيادة أعداد عمليات الترميم المعماري في بكين التي تتبنى «طراز تشيان لونغ». ويوضح أن العديد من المباني التاريخية، من بينها جوان تشينزاي، كانت مرتبطة بأكثر من إمبراطور واحد، وأن جهود الترميم يجب أن تذكر هذه الحقيقة.

وأضاف: «أعتقد أن النتائج جيدة، ولكن بعد فترة ستصبح عملية شاقة أن تعيد كل شيء إلى تلك اللحظة العظيمة في التاريخ الصيني».

* خدمة «نيويورك تايمز»