معارض منتجات المساجين في مصر تطلق سراحهم فنيا

من صناعة الأثاث وتربية الماشية إلى رسم اللوحات ونحت الخشب

مسجونون يمضون وقتهم في صناعة السجاد («الشرق الاوسط»)
TT

أيدي المحكومين في السجون تزرع وتصنع وتلوّن على الورق والقماش، وهي تحاول أن تنحت على منتجاتها ذكريات وآمال تذهب لمن سيشتريها خارج أسوار السجن.. وبمرور الأيام، وكلما اقترب موعد قضاء محكوميته، تزداد خبرة السجين في حرفة بعينها، حتى إذا جاء وقت الإفراج النهائي عنه، عاد للمجتمع مؤهلا بصنعة تغنيه عن السؤال، أو عن معاودة ارتكاب أي من الجرائم مجددا. «الأهم من كل ذلك هو أننا نجد ما يشغلنا وما نقطع به الوقت في عمل نحبه ونستفيد من عائده المادي أيضا.. أحسب نفسي في دورة تدريبية طويلة لتعلم أعمال النجارة». يقول سجين يدعى «أسامة» محكوم عليه بالحبس 5 سنوات في سجن بجنوب العاصمة المصرية، وهو يمسك بمنشار كهربائي في مصنع لإنتاج «خشب الكونتر» ملحق بمبنى السجن. وكان هذا السجين عاطلاً عن العمل حين فشل مع زملاء له بضاحية مصر القديمة بجنوب القاهرة في سرقة أموال من خزينة لشركة بيع سيارات، بعد اقتحامها وإصابة حراسها، على كورنيش النيل قبل ثلاث سنوات.

تمكن السجين أسامة وزملاء له من تنفيذ ما لا يقل عن 90 تصميما لغرف نوم من مختلف الأحجام والمقاسات والطرز.. «نتسلم التصميمات المطلوبة من أحد المهندسين المسجونين في مكان ما هنا، ونشرع في وضع خطة للعمل.. هناك أنواع من غرف النوم، بالنسبة للنوع السهل فهو غرف نوم الأطفال لأنها لا تتكون في الأغلب إلا من سرير أو سريرين متشابهين، مع دولاب (خزانة ملابس) صغيرة، لكن غرف نوم الكبار (الزوجين) تحتاج لمجهود أكبر ووقت أطول، فهي إضافة للسرير العريض المنقوش عليه عادة أوراق شجر وتشكيلات هندسية وخلافه، هناك الدولاب والتسريحة (المرآة وملحقاتها الخاصة بأدوات الزينة).. بالنسبة للدولاب، أصبح الزبائن المترددون على معارض منتجاتنا، بحسب ما قالوا لنا في إدارة التصنيع بالسجن، يفضلون الدولاب ذا الأبواب الجرارة، لا الأبواب العادية».

فكرة تعليم المساجين حرف زراعية أو صناعية بدأت في الولايات المتحدة الأميركية والعديد من البلدان الأوروبية منذ زمن طويل، وانتقلت إلى كثير من البلدان العربية في العقود الأخيرة. وفي إطار احتفالاتها بعيد الشرطة خلال الشهر الجاري يجري عرض منتجات السجون المصرية وبيعها مباشرة للجمهور بأسعار مخفضة، ويوجد المعرض الرئيسي الذي سيخصص لهذا الغرض في دار الضيافة لضباط الشرطة بالحي السادس بمدينة نصر (شرق العاصمة).

وقال مسؤول بإدارة الإعلام بوزارة الداخلية المصرية إن الدولة تتبع نهج تعليم المحكوم عليهم حرفا تنفعهم بعد خروجهم للمجتمع في إطار سياسة عقابية حديثة تضمن تمتع المسجون بكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية أثناء تأدية فترة العقوبة، كما أن تشريعات صدرت لتنظيم هذه العملية منذ صدر لهذا الغرض قرار جمهوري سنة 1978 بإنشاء «هيئة صندوق التصنيع والإنتاج للسجون». وأضاف أن هذه الهيئة لها مجلس إدارة يرأسه مساعد وزير الداخلية لقطاع السجون، ويضم في عضويته ممثلين من عدة وزارات حكومية منها وزارة «المالية» و«الزراعة» و«الصناعة» إلى جانب عضوية نائب رئيس مجلس الدولة فيها، إضافة لبعض قيادات وزارة الداخلية.

وقال المسؤول بإدارة إعلام الداخلية إن الهيئة أقامت العديد من المشروعات الإنتاجية التي تهدف إلى التوظيف الأمثل لطاقات السجناء، واستثمار أوقات فراغهم في عمل نافع، والنهوض بالمستوى المعيشي لهم ولأسرهم عن طريق تنميتهم مهاريا ومهنيا، إضافة لحصولهم على أجور وحوافز مجزية مقابل العمل.. «كل هذا بهدف تأهيلهم للانخراط الكريم في مدارج المجتمع، بعد خروجهم من السجن»، مشيرا إلى أن هذا أعطى فرصة أيضا لنزلاء بالسجون لممارسة هوايات جديدة مثل الرسم على الورق والقماش والنحت على الخشب، وتجميعها لعرضها ضمن معارض فنية بالمحافظات.

وتستطيع أن ترى على طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي (على بعد نحو 80 كلم غرب العاصمة) مساحات شاسعة من الأراضي التي استصلحها المسجونون وزرعوها بالفاكهة والخضروات وقاموا فيها بتربية قطعان من الأغنام والأبقار إضافة لمزارع الطيور من مختلف الأنواع.

ويتذكر السجين السابق «عبد السلام» الذي أمضى 9 أعوام في السجن، منها عامان بمنطقة المشروعات تلك التابعة لمصلحة السجون المصرية، كيف أقام علاقة صداقة في سجنه مع أبقار كان مسؤولا عن رعايتها ومراقبة مراحل نموها، والشعور بمن يمرض منها، كونه فلاحا كان يربي الماشية في الأساس، قبل أن يحكم عليه بالسجن بعد إدانته في قضية اقتتال بين أفراد من عائلته وعائلة أخرى في مركز كفر الشيخ بالدلتا.. يقول: «كنت مسؤولا في السجن عن رعاية 13 بقرة صغيرة طوال 18 شهرا.. كانت تتحدث لي وكنت أتكلم معها، وكل واحدة أعطيتها اسما خاصا بها.. منها بقرة صغيرة كانت تعرف إنني أسميتها «عزيزة»، لأنني حين أناديها باسمها كانت تلتفت نحوي (..)، خلال تلك المدة تقربتُ من الحيوانات أكثر ووجدت الوقت لأتأملها طويلا، وتعلمت منها الكثير.. تعلمت منها الصمت والصبر».

وترقت السجينة السابقة في سجن القناطر «صباح» من مجرد سجينة تعمل على ماكينة صناعة التريكو، إلى سجينة تصمم رسومات لتنفيذها على ماكينات التريكو، وتمكنت بعد خروجها من السجن من إقامة مشغل صغير تعمل فيه خمس فتيات لتطريز الستائر وصناعة ملابس الأطفال المزركشة وتصميم العباءات النسائية. وبخلاف معرض منتجات السجون في «دار الضيافة» بمدينة نصر الذي يستمر طوال هذا الشهر، هناك معارض دائمة ومشروعات أخرى بدأت «هيئة صندوق التصنيع والإنتاج» أخيرا في تطويرها منها معرض منتجات الأثاث الخشبي والمعدني في شارع شنن بالقرب من محطة رمسيس في قلب القاهرة، وآخر في نادي اتحاد السجون الرياضي القريب من سجن طرة جنوب العاصمة، وثالث في مقر الجمعية الاستهلاكية لضباط الشرطة بالعباسية (شرق).

وأضاف مسؤول بمصلحة السجون المصرية إن هناك مصانع أخرى أنشت أخيرا في سجون «بو زعبل» و«المرج» و«القناطر» و«برج العرب» لإنتاج الأحذية والأثاث المعدني والحلاوة الطحينية وإنتاج الملابس، إضافة لإقامة محطات حديثة لتربية وتسمين 1500 من رؤوس الماشية و1500 من الأغنام و35000 دجاجة، وأعداد كبيرة أخرى من طيور الرومي والبط و السمان والنعام.