.. وهوى الضلع الثاني من المثلث الرحباني

مسرحيته الغنائية الأخيرة «عودة الفينيق» لا تزال مستمرة

مشهد من مسرحية منصور الرحباني «عودة الفينيق» التي تعرض حاليا في «كازينو لبنان» (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

رحل صاحب «المتنبي» و«سقراط » و«جبران خليل جبران»، رفيق الفلاسفة والهامات الشاهقة، وأبى قبل وفاته إلا أن يتحفنا بمسرحيته الأخيرة، التي لا تزال تعرض في «كازينو لبنان» بعنوان «عودة الفينيق»، وكأنما ليؤكد أن الانبعاث قدر الكبار، وأنه يودعنا ليبقى معنا، ويتركنا لنزداد به قوة وصلابة.

رحل الفنان الكبير منصور الرحباني أمس، بعد أن كان قد نقل منذ فترة إلى مستشفى «أوتيل ديو» في بيروت، إثر انفلونزا حادة، تدهورت على إثرها صحته. وبعد انتشار خبر وفاته صباح أمس، هرع محبوه إلى كنيسة مار إلياس أنطلياس، حيث تلقى أولاده وعائلته العزاء، وقد انضم إليها ابن أخيه زياد الرحباني عند المغرب، وحضر فنانون وعشاق ومواطنون عاديون لمواساة العائلة في مصابها. ويدفن منصور الرحباني بعد ظهر يوم الجمعة بعد أن تقام على نفسه الصلاة في كنيسة مار إلياس، فيما توقفت عروض مسرحيته الغنائية «عودة الفينيق» في «كازينو لبنان» مؤقتا، لتعود يوم السبت، أي بعد الدفن مباشرة، وتستمر حتى 27 من فبراير المقبل.

وبرحيل هذا الموسيقار الكبير تطوى صفحة مفصلية من تاريخ الفن الموسيقي اللبناني والعربي. فالشقيقان عاصي ومنصور، اللذان نحتا في صخر الكلمات، وطوعا النوتات الموسيقية، جعلا الجمال أغنيات تتدفق على كل شفة من المحيط إلى الخليج، طوال نصف قرن مضى. فيوم رحل عاصي في ثمانينات القرن الماضي، بقي منصور صامدا، حاملا الراية لا يريد لهذا الهدير الرحباني أن يتوقف. لم يعمل مع فيروز بعد أن شيدت مع الأخوين الشهيرين الضلع المكمل لثلاثي الإبداع الذي انتشت له الآذان وطربت، لكنه وجد في أولاده، أسامة وغدي ومروان، البديل الذي شكل معه فريقا أبدع مسرحيات غنائية يشعل بها صيف اللبنانيين كل سنة، فيما كان لفيروز مع ابنها زياد طريق آخر لا يقل تألقا ووهجا.

ولد منصور حنا الرحباني عام 1925 في إنطلياس (شمال بيروت)، واضطر للعمل باكرا، وعاشت العائلة حياة بائسة قال عنها منصور: «تشردنا في منازل البؤس كثيرا. سكنا بيوتا ليست ببيوت، هذه هي طفولتنا». بدأ العمل وهو في السابعة عشرة من عمره بسبب وفاة والده، فالتحق بسلك «بوليس بيروت العدلي». تربى منصور، كما شقيقه عاصي، في عائلة أحبت الفن، رغم ضيق الحال، وسعت لتعليمه لأولادها، فنشأ منصور موسيقيا على يد الأب بولس الأشقر، واطلع على الموسيقى الشرقية، كما تعلم الموسيقى الغربية على يد برتران روبييار. أطل الأخوان عاصي ومنصور على الساحة الفنية في وقت كانت فيه الأغنية العربية كلاسيكية مليئة بالنجوى والشكوى والتأوهات، وبحكم معرفتهما بالموسيقى البيزنطية والتراث الإسلامي والفولكلور اللبناني، الذي كانا منغمسين فيه بفضل جدتهما وأساتذتهما، دخلا الإذاعة اللبنانية عام 1945 مسلحين بزاد ليس لغيرهما، فكانت لهما اسكتشات وأعمال لفتت النظر إليهما. وفي عام 1955 اقترن عاصي بنهاد حداد، التي كانت تغني في كورال الإذاعة، وتحول الأخوان رحباني إلى ثلاثي يملأ العالم العربي كله نغما وفرحا وسحرا. وطلعت الأغنية الرحبانية من حنجرة فيروز مخملية عذبة، فيها من الشرق مخيلته الرومانسية، ومن الغرب السرعة والديناميكية الموسيقية. خلطة توالدت من رحمها أعمال فنية خلبت العرب أجمعين، وأسست لمدرسة جديدة في الكلمة الشعرية والنغمة الساحرة. ولم يكن لأحد أن يعرف أي الأخوين يكتب وأيهما يلحن، وذاب منصور وعاصي في ذاك التوقيع الأخوي الذي لم يتخليا عنه، وبقي منصور حريصاً عليه حتى بعد أن فرق الموت بينهما. وحين سئل منصور أن يكشف عن هذا السر، الذي حيّر المعجبين والمحبين، وأن يوضح للفضوليين من كتب هذا ومن لحن ذاك العمل قال: «كنت عاصي وعاصي كان منصور، ولكل واحد منا امتداد في الآخر، كنا واحدا، كل أعمالنا مشغولة بأصابع عاصي ومنصور». ولم يتردد منصور في أن يقول إنه هو نفسه لا يعرف، لشدة الامتزاج بين الشقيقين، ما الذي أبدعته قريحة كل منهما. أمر لم يعجب البعض، وقيل إن العبقرية كانت لعاصي ومنصور ليست الأصل في الأعمال البديعة التي وقعاها معاً. لكن منصور كان حاسما: «أنا اليوم الاستمرار الطبيعي للأخوين رحباني، وعندما أقوم بأي عمل يكون عاصي حاضراً في داخلي».

وبالفعل لم يهدأ منصور ولم يكلّ بعد وفاة شقيق الروح وشريكه في الفن، وقدّم حوالي عشر مسرحيات حملت اسمه بدأها بـ«صيف 840» عام 1988 وأهداها لعاصي، وانتهاء بـ«عودة الفينيق» التي انطلقت عروضها في مهرجانات بيبلوس خلال الصيف الماضي، ولا تزال مستمرة.

وكان الثلاثي (عاصي، منصور وفيروز) قد ارتبطت أسماؤهم منذ عام 1957، وبعد فترة عمل قصيرة في القاهرة، بمهرجانات بعلبك الدولية، حيث أصبحت مشاركتهم فيها جزءا من أعمدتها الأساسية حتى توقفت هذه المهرجانات بسبب الحرب الأهلية اللعينة، وكانوا قد قدموا على أدراج القلعة التاريخية المهابة جلّ أعمالهم المسرحية. وجاءت بداية المسرحيات مع «موسم العز» عام 1960، ومن ثم البعلبكية عام 1961، وكرّت سبحة المسرحيات التي شكلت محطات مهمة في تاريخ تطور الفن المسرحي الغنائي عربيا. ومن هذه المسرحيات التي صارت بعض أغنياتها على كل لسان، وعشق الإذاعات في الصباحات الصافية: «هالة والملك»، «الشخص»، «جبال الصوان»، «ناطورة المفاتيح» وغيرها، هذا إضافة إلى ثلاثة أفلام، والكثير من الأعمال التلفزيونية، والكثير من الاسطوانات، والحفلات التي جابت العالم.

في عام 1972، وبعد تقديم مسرحية «ناطورة المفاتيح» تعرض عاصي لنزف حاد في الدماغ . في عام 1979، قدم الأخوان رحباني آخر حفلاتهما مع فيروز على مسرح الأولمبيا في باريس. ثم كان الانفصال بين عاصي وفيروز، لتبدأ فيروز حياتها الفنية المستقلة. وقدم الأخوان رحباني من دون فيروز مسرحيتين تدهورت بعدهما صحة عاصي الرحباني، ورحل في يونيو (حزيران) 1986، تاركا هذه المرة منصور، توأم روحه، وشقيق دربه، يؤلف ويلحن وحيدا. وما قدمه منصور كان عزاء لكل محبي الفن الرحباني، ومتعة للذواقة، على الرغم من كل ما وجه لها من اعتراض. بدت ذائقة منصور تاريخية بامتياز، استعاد شخصيات تاريخية كبيرة، وأعادها إلى المسرح تغني وترقص كأنها بنت اليوم، وأكثر هذه الشخصيات إثارة للجدل كان المتنبي بطبيعة الحال، وجبران أيضا. لكن منصور لم يأبه، وواصل مسيرته ومواقفه القوية في السياسة كما في الفن، وساند فيروز يوم قررت الغناء في دمشق عام 2006 قائلا: «نحن أدرى منكم بمصلحة الفن المنزهة عن السياسة، فالفن الرحباني ـ الفيروزي عطاء وجمال، وهو رسالة محبة وسلام من لبنان إلى سوريا، رسالة صداقة لا عمالة. فالرجاء عدم زج اسمينا بأوحال السياسة، نحن رواد القضية الكبيرة، ونحن من عبّد طرقات الكرامة والتحرر في الوطن العربي، ونحن من بنى وطنا للحق والخير والجمال، بينما أساء إليه المنظرون، فليهدأوا. والسلام». واعترض منصور الرحباني مؤخراً على تصوير فيلم مأخوذ عن مسرحيته مع عاصي «هالة والملك» بعد بيعه لحقوقها للمنتج نادر الأتاسي منذ ما يقارب ثلاثين سنة. وجاء في البيان الذي أصدره: «بعد أن علمت أن التصوير الفعلي قد بدأ، يهمّني أن أؤكد أن كل التغييرات التي ستحصل، والتي حصلت، ويقوم بها القيّمون على الفيلم، هي بغير علمي ولست موافقاً عليها، سواء أكان من جهة التغيير في السيناريو، أو في الإدّعاء بأن الموسيقى التصويرية هي من تأليف رعد خلف، بينما هي في الحقيقة من تأليف وتلحين الأخوين رحباني، إلى حذف أغنيتين كنت قد وضعتهما في السيناريو الجديد، إلى اختيار كل الأعضاء من ممثلين وغيره. فإنني أؤكد أن كل هذه التغييرات والاختيارات حصلت من دون علمي، لا ولن أوافق عليها لا اليوم ولا غداً... وإنني أحمّلهم كل النتائج السلبية التي ستصدر عند صدور الفيلم». وقد نعى وزير الثقافة اللبناني تمام سلام الفقيد واعتبره «رمزاً وقيمة فنية وأدبية عملاقة». فيما رأى وزير الأشغال غازي العريضي أن منصور الرحباني يمثل «وجهاً من وجوه السياسة الحقة، لأنه في كل ما كتب، أغنية أو نصاً أو مسرحاً او شعرا أو نثرا، كان صادق التعبير عما في وجدانه وعقله وقلمه، وعما يجول في خاطر اللبنانيين». لذلك فهو «يترك أثرا فنيا تراثيا غنيا كبيرا يشكل معلما من أهم المعالم في تاريخ لبنان، وثروة من أهم الثروات في تاريخ لبنان الحديث». وبرحيل منصور وسقوط الضلع الثاني من المثلث الرحباني، الذي تعلقت به الذائقة العربية بكثير من الشغف والحب، ترفع دعوات من صميم القلب لفيروز بطول العمر ودوام الصحة، وللجيل الرحباني الثاني بأن يكون على قدر تلك المسؤولية الكبرى التي تركت ثقيلة على أكتافهم.

* أعمال منصور الرحباني

* يغادرنا منصور الرحباني تاركاً وراءه ثروة فنية كبيرة بدأ إنجازها مع شقيق روحه عاصي، حيث كتبا ولحّنا معاً ما يقارب العشرين مسرحية منذ العام 1960، حتى كانا يقدمان بمعدل مسرحية واحدة كل سنة، من أشهر هذه الأعمال:

«جسر القمر» 1962، «هالة والملك» 1967، «جبال الصوان» 1969، «يعيش يعيش» 1970، «صح النوم» 1971، «ناطورة المفاتيح» 1972، «المحطة» 1973، «لولو» 1974، «ميس الريم» 1975، «بترا» 1977.

كما شارك منصور في كتابة وتلحين وكذلك التمثيل في ثلاثة أفلام سينمائية رحبانية شهيرة هي «بياع الخواتم» 1965 و«سفر برلك» 1966 و«بنت الحارس» 1967.

بعد وفاة عاصي كتب منصور ولحن عدة مسرحيات وهي «صيف 840» عام 1988 وبعد ست سنوات أي عام 1994 قدم «الوصية» تلتها «آخر أيام سقراط» 1998، و«قام في اليوم الثالث» 2000، وبعدها «المتنبي» 2001، تبعتها «ملوك الطوائف» 2003، و«آخر يوم» 2004، ثم «حكم الرعيان» 2004، و«جبران خليل جبران» 2005، ومن ثم «زنوبيا» 2007، وأخيراً «عودة الفينيق» 2008.

ووقع منصور الرحباني دواوين شعرية صدرت حديثاً له في يوليو الماضي، كما احتفى بالأخوين رحباني معرض الكتاب العربي والدولي في بيروت في دورته الأخيرة.