القاهرة: مقاهي وسط البلد.. حالة دفء مفتوحة على البشر والتاريخ

أقدمها «ريش» و«الحرية» وأحدثها «التكعيبة» و«أفتر إيت»

TT

حالة ثقافية، وإنسانية تدشنها بامتياز مقاهي وسط العاصمة المصرية، المعروفة بـمنطقة «وسط البلد». فعلاوة على البساطة والروح الشعبية التي تتميز بها هذه المقاهي، تشكل في الوقت نفسه ردا على نمط حديث من مقاهي ثقافة الاستهلاك، يسيطر على القاهرة منذ فترة طويلة، وأصبح يلقى رواجا بين قطاع كبير من القاهريين، وبالأخص الشباب من عشاق الترف والبذخ الاجتماعي.

إيقاع هذا المشهد أصبح واضحا في مفردات الواقع اليومي المصري، ويتجلى بقوة في أنماط المقاهي أو الـ«كافيهات» بحسب اللفظة الأجنبية، وهي مقاه مغلقة غالبا على روادها، قائمة الطعام والشراب بها أيضا باللغة الإنجليزية. وكنوع من «البرستيج» الاجتماعي، غالبا ما يلتقي أبناء الطبقات الجديدة في هذه المقاهي التي تعرف بمقاهي الخمس نجوم، وأصبحت أيضا مشروعا اقتصاديا واستثماريا مضمون النجاح. ورغم ذلك لا يزال الكثير من القاهريين لا يلقون بالا لهذه «الكافيهات» ويفضلون أن يتجهوا إلى وسط مدينة القاهرة في المنطقة المعروفة بـ(وسط البلد)، حيث يجدون المقاهي التي تحمل رائحة وعبق القاهرة القديمة بثقافتها وأصالتها الشعبية، كما يجدون أفرادا من الطبقة المتوسطة يتميزون بالثقافة وحبهم للأدب والفن، فمقاهي وسط البلد ليست فقط مقاعد ومناضد ومشروبات، لكنها تاريخ وألفة بين البشر بعضهم بعضا، وبينهم وبين المكان مهما كانت درجة الرفاهية والرخاء أو التقشف والبساطة فيه. في جولة سريعة بين أشهر مقاهي وسط البلد التي تحمل علامات مسجلة في هذه المنطقة مثل: «ريش» و«التكعيبة» و«زهرة البستان» و«الندوة الثقافية» يطالعك هذا الجو.. فأثناء قدومك ميدان التحرير أشهر ميادين القاهرة باتجاه ميدان طلعت حرب تجد على يسارك محلات لبيع الملابس والمحلات الاستهلاكية التي تحمل صبغة هذا الزمان «التيك أواي»، ولكن تجد بينها مقهى «ريش»، أو «ريش كافيه» الذي يحمل العديد من السنين والذكريات والشخصيات المهمة في مجالات الأدب والثقافة والفن والسياسة.

بدأ مقهى ريش نشاطه في وسط البلد عام 1916، وهو التاريخ الذي يحرص أصحاب المقهى على الإشارة إليه دائما للتأكيد على عراقته وأهميته ووقوفه أمام الوجه الدميم للمجتمع الاستهلاكي. من الممر الضيق الذي يجاور «ريش» يظهر لك المقهى من الداخل كما هو الحال في المقاهي الفرنسية، فترى داخل المقهى قصاصات قديمة من الجرائد والمجلات، وصورا لألمع الكتاب والمفكرين الذين كانوا من رواد هذا المقهى، إلى جانب صور وبوسترات لأحداث فنيه وثقافية ومعارض للفنون التشكيلية، وأرفف من الكتب القديمة والحديثة الإصدار، أما أصحاب المقهى فهم لا يزالون يحتفظون بالأوراق التي تثبت عراقة وقدم هذا المقهى الذي كانت له حديقة تمتد حتى منتصف الميدان وأحيت بها السيدة أم كلثوم إحدى حفلاتها الغنائية وقدمت بها روزاليوسف إحدى مسرحياتها.

أسس مقهى «ريش» النمساوي بيرنارد شتينبرج، ثم باعه بعد عام من افتتاحه إلى الفرنسي هنري ريسن، لكنه اضطر إلى السفر خارج مصر بعد قيام الحرب العالمية الأولى وباعه إلى اليوناني ميشيل بوليتيس حتى اشتراه يوناني آخر اسمه مانولاكس، بعد هذا التاريخ بعشر سنوات، ومن ثم انتقلت ملكيته إلى اليوناني - الثالث - جورج ايفتانوس وسيلى، وفى عام 1960 انتقلت الملكية لرجل مصري تمتد جذوره إلى صعيد مصر اسمه (عبد الملك خليل)، أدرك قيمة هذا المكان وبذل قصارى جهده للحفاظ عليه، ثم ورثه عنه ابنه مجدي عبد الملك الذي يعي أنه لم يرث مقهى فحسب، إنما ورث ذاكرة أمة فقد كان المقهى ملتقى الأدباء والمثقفين أمثال أديب نوبل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، وصلاح جاهين، وثروت أباظة، ونجيب سرور، وكمال الملاخ، وأحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب، وعبد الرحمن الأبنودي، وغيرهم ممن كانوا يحرصون على حضور ندوات نجيب محفوظ الأسبوعية التي كان يعقدها بالمقهى عصر يوم الجمعة منذ عام 1963. وتشير الوثائق إلى أن (مقهى ريش) الذي كان مكانا للندوات والأحاديث الثقافية سرعان ما أصبح قاعدة للثورة، حيث كان زعماء ثورة عام 1919 يلتقون في ريش - كما يذكر المؤرخ الشهير عبد الرحمن الرافعي - في كتابه عن الثورة حيث يرصد ريش مكانا سريا يجتمع فيه دعاة الثورة والمروجون لها والداعون إليها.. يقول الرافعي في كتابه (تاريخ مصر القومي 1914-1921) إن المقهى كان مكانا لتجمع الأفندية أي الطبقة الوسطى التي بدأت تظهر وكانت خطة الثورة وأحداثها هي العنصر الغالب في الأحاديث التي تدور بين هؤلاء الرواد من الأفندية .

وشهد مقهى «ريش» مولد العديد من المجلات الثقافية مثل (الكاتب المصري) التي رأس تحريرها طه حسين ومجلة (الثقافة الجديدة) وأيضا (جاليري 68) التي كانت الحقل الأساسي لإبداع جيل الستينات من الأدباء، كما كان المقهى أيضا الحقل الذي صال وجال فيه جيل السبعينات المثقف الرافض للأوضاع في مصر.

بعد أن تنتهي من الممر بجانب ريش تجد أمامك عالما آخر منفصلا عما حوله من الصراخ والضوضاء، وهو مقهى «زهرة البستان» ومكتوب على لافته المقهى بخط بارز بجانب الاسم ملتقى الأدباء والفنانين. في أول دخولك إلى المقهى تجد العديد من المناضد والكراسي المتراصة لتسع هذا العدد من رواد المقهى ليلا ونهارا باختلاف طبقاتهم ومشاربهم الثقافية، منهم الرواد الدائمون الذين يحضرون إلى المقهى يوميا، وكذلك أفواج الأجانب الذين ينظرون إلى هذه البقعة كأنها قطعة أثرية، وأيضا الشباب الذين يتجمعون للعمل أو للتسلية حيث تجد أحدهم يجلس وأمامه «اللاب توب»، وآخرين يتبارون في لعب الطاولة، بينما يدخن البعض، وينادي آخرون على (نجرو وشريف) أكبر أسطوات المقهى اللذين يدوران بنشاط مع خفة دمهما، مما يكسب الفراغ في المقهى الواقع بين عمارتين عتيقتي المعمار جمالا خاصا. ومن أبرز رواد مقهى زهرة البستان الروائي مكاوي سعيد، واكتسبت زهرة البستان شهرتها من تجمع العديد من الأسماء اللامعة في الأدب والثقافة والفن بخاصة من الكتاب الشبان الذين ينتهزون فرصة تجمع الأدباء الكبار بها حتى يعرضوا أعمالهم الأدبية عليهم، حيث كان هذا المقهى ولا يزال هو المحطة الأساسية للعديد من الكتاب الشبان وأدباء الأقاليم. ومن المأثورات التي تروى عن هذا المقهى هو تجمع الأدباء ورواد المقهى مع الكاتب يحيى الطاهر عبد الله الذي كان يأتي ويروي على أصدقائه قصة جديدة من قصصه من دون ورق حيث كان يتلوها من الذاكرة. وما زال العديد منهم يتذكر هذا الحدث، فيقول أحمد إبراهيم (صحافي): إنه يتذكر هذا الحدث بل يفتقده كثيرا هذه الأيام لِما كان ليحيى الطاهر من أسلوب مشوق، أما الآن فلا تجد مثل هذا الجمال وعبق الثقافة الذي كان في الماضي، بل تجد أن أغلب الرواد الآن من الشباب والشابات، ليس لهم هموم ثقافية، وإنما يتشاركون الفراغ واللهو وتدخين الشيشة والسجائر، بينما ينزوي الرواد القدامى على الرصيف بجوار المقهى. وعلى بعد خطوات من هذين المقهيين الشهيرين يطالعك مقهى «الندوة الثقافية» بشارع الألفي، وما يميز الندوة أن أغلب المرتادين من الأدباء والمثقفين، ويحرص أصحاب المقهى على الحفاظ على هذا الطابع حتى يكون اسم المقهى على مسمى فعلا. ومن أهم رواد هذا المقهى الشعراء سمير سعدي ومصطفى الجارحي وأحمد أبو الحسن، كما يرتاده بشكل يومي النائب البرلماني رجب هلال حميدة، وكان يقيم الأديب علاء الأسواني ندوة أسبوعية بهذا المقهى.

يجاور «الندوة الثقافية» وعلى بعد خطوات قليلة، مكان آخر يحمل عبقا خاصا به وهو مقهى «الحرية» وهو يطل على ميدان الفلكي وبه ركن خاص للمشروبات الكحولية والبيرة، ويتميز المكان بمساحة كبيرة تجعل منه مكانا خصبا لتلاقى العديد من البشر من الأجانب المقيمين بالقاهرة والسائحين، وأيضا أصحاب المعاشات وكبار السن وبعض السينمائيين الناشئين.

أما أكثر مقاهي وسط البلد شهرة الآن فهما مقهى «التكعيبة» و«أفتر إيت After eight» لأنهما ينفردان بعملهما على مدار الساعة يوميا سواء صيفا أو شتاء، وتقع «After eight» على بعد خطوات أيضا من ميدان طلعت حرب حيث تقبع مكتبة مدبولي الشهيرة في وسط الميدان، ستجد على اليسار ممرا ضيقا به محل لصنع الأكلات الشعبية مثل الفول والطعمية والبطاطس يسمى محل «سعد الحرامي» وإلى جواره يقع مقهى «أفتر إيت» الذي يجاوره أيضا بار ومطعم بنفس اسم المقهى نفسه، عبارة عن محل صغير، يسع عددا قليلا من المقاعد، لكن المكان الرئيسي هو الطرقات التي تحيط بالمقهى، ورواده الأساسيون غالبا من الصحافيين والفنانين، من الشبان الذين يأتون إلى المقهى للتداول في أمور العمل والترفيه وتدخين الشيشة وأيضا لعب الدومينو والطاولة والاستيمشن، ويمكنك وأنت جالس على المقهى أن تطلب الطعام على هيئة أطباق من مطعم سعد الحرامي. وفى شارع حسين المعمار على مقربة من «أفتر إيت» ترتقي قهوة التكعيبة بسمعتها العالية بين مقاهي وسط البلد بأنها هي مقهى المثقفين والمعارضة في الوقت الحاضر. فالمقهى يجمع بين الأشكال الحديثة للثقافة المصرية، فعليها تقام الأمسيات الشعرية والأدبية، كما يقع بجوارها مسرح «الروابط» الذي قدم العديد من العروض المستقلة المهمة، وأيضا مركز «التاون هاوس» وقاعات لمعارض الفن التشكيلي. ورواد التكعيبة من المخرجين وكتاب السيناريو الشبان والفنانين التشكيليين الذين لا تنقطع أحاديثهم ومحاوراتهم حول الأدب والثقافة والفن.