حمّام القرماني يستعد لاستقبال زبائنه مجددا

ظهور مفاجئ لمَعلَم دمشقي قديم

حمام القرماني وسط دمشق ظهر بعد هدم السوقين («الشرق الاوسط»)
TT

قبل أكثر من 1300 سنة، قال الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان جملته الشهيرة لأهالي دمشق، وهو يطلق العمل ببناء الجامع الأموي «إنكم تفخرون على الناس بأربع خصال: بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحمّاماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامسة».

ظل الدمشقيون يبنون منذ مئات السنين، وعلى مر العصور الكثير من حمّامات السوق، منطلقين من مثل شعبي يقول «نعيم الدنيا الحمام»، وفي وقت ما وصل عددها إلى 160 حماما قبل أن تنقرض أو يتحوّل الكثير منها إلى مستودعات للتجار ومطاعم ومقاهٍ، وقبل أن يتهدم قسم آخر بفعل الزمن وعزوف الدمشقيين عنها في القرن العشرين مع انتشار الحمّامات المنزلية والمسابح الحديثة «المفلترة» وغرف «الساونا» في فنادق دمشق ومنتجعاتها. وبالتالي، لم يبق من الحمّامات التقليدية أكثر من عشرة، يحاول أصحابها الاستمرار في تشغيلها، من خلال الترويج السياحي لها، وإضافة «الساونا» وحمامات البخار، وترميمها بشكل دائم. ومعظم ما تبقى منها يقع في أسواق دمشق القديمة وحاراتها.

قبل بضعة أشهر، هدمت محافظة دمشق السوق العتيق المُهمل، الذي كان مخصصا لبيع الطيور، وهجره مستثمروه منذ 18 سنة، وهُدم أيضا سوق القرماني، الذي كان مخصصا لبيع الخضار والسمك، لكنه سوق مؤقت، بنيت محلاته من الصفيح والتوتياء، وكان يعجّ بالمارة القادمين لشراء الخضر زهيدة الثمن نسبيا. والسوقان يقعان وسط دمشق في المنطقة الفاصلة بين ساحة المرجة وشارع الملك فيصل وجسر الثورة، وجرى تحويل أرضهما إلى مساحات خضراء.

لكن، وكما يقال «رُبّ ضارة نافعة». إذ أظهر هدم السوقين حمام القرماني – أو «الآرماني» - العريق، الذي كان محجوبا عن زوار دمشق وسياحها، ومهملا منذ عشرات السنين، رغم أنه معروف في ذاكرة الدمشقيين كحمّام سوق جميل ومكتمل البناء، فهو يعدّ من أكبر حمّامات دمشق القديمة بأقسامه الثلاثة: البرّاني والوسطاني والجوّاني.

ومع ظهور حمام القرماني من جديد، لاحظ الكثيرون حال بنائه البائسة؛ وهو الذي لم يرمّم منذ عشرات السنين، كما ظهرت عليه علامات التآكل من خارجه وداخله بفعل الزمن والإهمال، فطلبت محافظة دمشق من صاحب الحمّام ومستثمره المبادرة إلى ترميمه وإصلاحه تمهيدا لإعادة فتحه كحمام سوق تراثي سياحي.

يقول أحمد تيناوي، صاحب الحمّام ومستثمره أبا عن جد منذ بنائه الأول لـ«الشرق الأوسط» «استجبنا فورا لطلب المحافظة بالترميم وبإشراف لجنة حماية دمشق القديمة، خاصة دائرة الآثار. فحمّامنا يعتبر أكبر حمام دمشقي بشهادة الباحثين والمؤرّخين. إذ تبلغ مساحته حوالي 500 متر مربع، وهو بشكل مستطيل( 20 م/ 25 متراً)، كما أن للحمّام فسحة خارجية بعرض خمسة أمتار، ويأتي بعد حمّامنا، من حيث المساحة، حمّام البكري في منطقة باب توما». ويتابع «يعود تاريخ بناء حمّامنا لمنتصف العصر العثماني، إذ يتجاوز عمره 350 سنة، وكان حمّامنا يعمل بشكل مقبول حتى عام 1990. ولقد أهمل في ذلك التاريخ السوق العتيق المجاور لحمّامنا، الذي كان يشكل المدخل له. فحين يزور الناس السوق العتيق كانوا يشاهدون حمّامنا فيدخلون إليه، وبعد ذلك أهمل الحمّام مع السوق، وما عاد أحد يأتينا للاستحمام، فأغلقناه ليحصل ما لم نكن نحسبه، وهو ظهوره بشكل واضح ومن الجهات الأربع مع هدم السوقين (العتيق والقرماني). فأثار الحمّام من جديد انتباه الكثيرين، خاصة أن المنطقة مكتظة بالمارة والسياح، ويشاهد حمامنا بشكل بانورامي من فوق جسر المشاة وجسر السيارات في شارع الثورة، ومن كل الأزقة والأسواق المتفرعة من ساحة المرجة، ومن سوق الهال القديم، وشارع الملك فيصل، فهو يتمتع بموقع استراتيجي هام جدا. لذلك عملنا بكل جهدنا على إعادة الحمام كما كان في السابق، خصوصا أنه جرى تلبيسه خطأً، قبل حوالي عشرين سنة، من الخارج، بحجر أبيض، وهو مغاير تماما للحجر الأساسي، ومن ثم أزيل التلبيس، ونحن نرممه حاليا بالحجر الأساسي المائل للون الصفر».

ويستطرد تيناوي شارحا «كذلك نعمل الآن على ترميم قسم «القميم»، وهو الخاص بتشغيل الحمام وتدفئته. ومن الداخل أنجزنا كل الأعمال، من حيث إصلاح الأقواس المعمارية التي تزيّن الحمّام والزخارف والرسوم. ورمّمنا البحرات التي تتوسط أقسامه الثلاثة والأجران التراثية والقبب التي تزينه، وهي أكثر ما تميّز حمّامنا عن حمّامات دمشق الأخرى، فهو يحتوي على 12 قبة بجانب القبة الكبيرة، وجميعها مزوّد بفتحات للإنارة، تتيح دخول أشعة الشمس عبر القَمَرات الموجودة في هذه القبب». وحول تاريخ وهندسة بناء حمام القرماني، يقول المؤرخ إحسان الشيشكلي «الحمّام مبني منذ عام 1340م وقد بناه المير محمد بكتوت القرماني، في سوق العتيق أسفل سوق ساروجة، وذكره المهندس الفرنسي إيكوشار الذي وضع مخطط دمشق الجديدة، قبل سبعين سنة، كما ذكره المؤرخ الدكتور صلاح الدين المنجِّد. وكان في أواخر أربعينات وخمسينات القرن الماضي من أكثر حمّامات دمشق ارتيادا ونشاطا بفضل موقعه وسط دمشق قريبا من فنادق سوق ساروجة العديدة، حيث يكثر السياح والضيوف. ويتألف الحمام من القاعة الباردة (البراني)، وهي باحة على شكل صحن تتوسطه بحرة من الحجر المزّي، وتحيط به أربعة أقواس، تستند عليها قبة مستديرة فيها ثماني نوافذ كان زجاجها ملونا بالأحمر والأخضر والأصفر. وكانت القبة والمثلّثات الكروية التي بين الأقواس في خمسينات القرن الماضي موشاة برسوم نباتية وأزهار وتزيينات نباتية متناظرة ومناظر لمدينة دمشق، بحيث كانت من أجمل قباب حمامات دمشق، وقفلة القبة على شكل فقاعة محاطة بالنوافذ. وهناك القاعة المعتدلة (الوسطاني) والقاعة الداخلية (الجواني)، وفيه جرنان. كما كان للحمّام جرن ينسب للشيخ محمد القرماني، وهو ولي صالح له قبر في الجادة التي أخذت اسمها منه - أي جادة القرماني قرب ساحة المرجة – وكانت توقد له الشموع وتقدّم له النذور، يوم كان الحمّام يستقبل النسوة، إذ كانت هناك فترة زمنية يوميا لاستقبالهن، كحال جميع حمّامات دمشق القديمة. ولكن عام 1961 ألغيت فترة النساء، واقتصر الحمّام على استقبال الرجال فقط، حتى عام 1990، عندم أغلق الحمام أبوابه مع السوق العتيقة».