«أبو العبد» يقفز من الذاكرة الشعبية إلى كتاب يجمع تراثها

بشخصيته البيروتية ولباسه الفولكلوري

TT

يصعب العثور على لبناني لا يعرف حكايات أبو العبد. فهذه الشخصية البيروتية الفولكلورية هي رفيقة رواد المطعم أو المقهى أو المنزل أو السيارة وحتى في العمل. فلا يتوانى أي منهم عن إيراد دعابة أو طرفة أو نكتة جريئة أو ساخرة بطلها «أبو العبد» الخفيف الظل وزوجته أم العبد المولعة بترتيب القصص الفكاهية، ونجله الطيب القلب عبد وغريمه الدائم أبو صطيف (مصطفى)، وهو أيضاً شخصية بيروتية لا تقل خفة دم عن رفيق دربه وممول نكاته.

ولا تنحصر شخصية أبو العبد بطربوشه الأحمر وشراباته المتدلية وغنبازه (العباءة) المقلم، والـ «بيستون» (عصا رفيعة من الخيزران) الذي لا يفارق قبضة يده أو خصره، ولا ينفك يلوح به ليظهر نفسه بمظهر القبضاي الذي لا يقف أحد في وجهه، ولا يجرؤ أحد على المس بشاربيه المقوسين صعودا علامة القبضايات وزعماء الشارع والمقهى والرصيف.

ويكاد أبو صطيف المتمنطق باللباس نفسه يكون ظل أبو العبد، في المقهى حيث يتناولان أكواب الشاي بالجملة، ويستمتعان بـ «نفس» النارجيلة، ويطربان لـ «كركرتها» العالية ويناديان «جمرة يا ولد». ولا تمضي لحظة بين الرجلين من دون أن يتبادلا النكات والدعابات التي لا تنجو منها أم العبد ولا أم صطيف ولا حتى عبد، وإذا توقفا فليمارسا «لعبة الورق» أو طاولة النرد.

شخصية أبو العبد كانت قد دخلت الذاكرة الشعبية اللبنانية مع رفاقه أو شركائه. وكان الفنان أحمد خليفة أشهر من أداها في المقاهي وعلى المسرح والشاشة الصغيرة وفي السينما، فهو كان «قبضاي» الأخوين رحباني في «سفربرلك»، كما برع في تأدية دور «الحكواتي» وحفظ الجمهور أداءه الملحمي وهو يروي سيرة عنترة والمهلهل والزير سالم، لا سيما في الأمسيات الرمضانية على مدى عقود من الزمن. كما حفظوا عبارته «ايش يا خال» التي تشير إلى حفظه حرمة محدثه، على عادة أهل بيروت القدامى الذين يصونون العرض ولا يسمحون لأي أحد بالحديث عن نساء الحي، وإلا تحصل المشاكل التي لا تحمد عقباها. وهكذا عرف أبو العبد في كل لبنان بشخصيته البيروتية صوتاً ولكنة ولباسه الفلكلوري من الطربوش إلى البابوج، فهو «البسطاوي» العريق نسبة إلى محلة «البسطة» في الشطر الغربي من العاصمة التي يقطنها البيارتة الأصليون وذوو اللكنة المميزة، حيث كانت لا تخلو جلسة في قهوة (مقهى) القزاز من دونه. إلا أن أبو العبد انتقل من دوره التقليدي ليحتل شبكة النكات والطرائف ويرمز إلى شخصية البيروتي القديم البسيط والخفيف الظل الذي يضخم الأمور ليتباهى ببطولاته، ما يثير حفيظة «أم العبد» التي تسعى إلى عصرنته وتفشل دائما. بدأت هذه الطرائف تنتشر خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ربما للتعبير عن عجز المواطن العادي حيال قوى الأمر الواقع التي لا ترعى حرمة كبير أو صغير لتفرض هيمنتها على الأحياء. إلا أن هذه الطرائف تطورت ووسعت إطارها لتلبس شخصية أبو عبد كل ما يجول في خاطر الناس من تعليقات لطيفة وطريفة وسمجة وأحيانا بذيئة. هذه الشخصية المشهورة التي لم تجد من يؤطر أخبارها أو يجمع تراثها، أصبحت وللمرة الأولى موضوع كتاب جديد وضعته سابينا محفوظ، الإنجليزية - الألمانية الأصل، المتزوجة من لبناني، والمقيمة منذ عدة سنوات في لبنان. تقول محفوظ إنها خصصت جزءا من ريع هذا الكتاب لجمعية خيرية لبنانية تتولى دعم المشاريع الإنمائية.

من نكات الكتاب أن «أبو العبد ذهب إلى طبيب الأسنان، وقال له: يا حكيم ما في لزوم للبنج. أريد منك أن تخلع سنا واحدة فقط، فأجابه الطبيب: يا ليت كل الزبائن مثلك يا أبو العبد دلني على السن التي تؤلمك. حينها صرخ أبو العبد: يا عبد افتح فمك حتى يشتغل الحكيم». وفي نكتة أخرى تورد محفوظ أن «أبو العبد وأبو صطيف ذهبا إلى لندن للسياحة. واستقلا باصا بطبقتين. قرر أبو صطيف أن يجلس في الطبقة السفلى، أما أبو العبد فجلس في الطبقة العليا. بعد وقت قصير، صاح أبو العبد مناديا رفيقه: أين أصبحتم تحت؟ فأجابه أبو صطيف: نحن قبالة قصر باكينغهام. ليعقب أبو العبد قائلا: نحن في الطبقة العليا لا نزال مكاننا بانتظار السائق».

وتعتبر محفوظ أنها تعرفت إلى شخصية أبو العبد منذ سنوات طويلة، وتحديدا خلال الحرب اللبنانية، «التي أرغمت العديد منا على ملازمة المنزل لفترات طويلة، حيث أمضينا الأمسيات مع الأقارب والجيران نروي فيها طرائف أبو العبد لننسى الحال المتوترة».

ولشدة ولعها بتلك النكات والدعابات التي اشتهر بها زوجها وحفظ الكثير منها بجوانبها الظريفة وغير الظريفة، انكبت محفوظ على تسجيلها وضمها في كتاب، لأقدم أحب فكاهيي لبنان إلى جمهور واسع، على حد قول الكاتبة التي تضيف: «قد ينتقد بعضكم اختياري النكات، ويخيب ظنه لعدم رؤية نكتته المفضلة في الكتاب، باعتبار أن أفضل نكات أبو العبد هي من العيار الثقيل».

وتضافرت جهود سابينا محفوظ وزوجها، وباتريك صفير، الطالب في السنة الخامسة في الرسم الهندسي في جامعة «البا» اللبنانية، الذي ساهم برسومه في هذا العمل لإصدار كتاب «نكات أبو العبد» باللغتين العربية والإنجليزية.