الكوفية الفلسطينية لا تعترف بوقف إطلاق النار

تربعت على القمة في شوارع القاهرة مع اشتعال أحداث غزة

ناس من جميع الأعمار يشترون الكوفية الفلسطينية في شوارع القاهرة (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

عشرون جنيها فقط، وربما أقل، تنقلك من عالم الرفاهية إلى عالم المقاومة والدفاع عن الأرض والعرض.. عشرون جنيها تدفعها بشكل تلقائي، لتنقلك عبر آلة الزمن الافتراضية، إلى خط النار. إنها ليست ثمنا لرحلة سياحية، ولا ثمنا لتأشيرة دخول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة بخاتم إسرائيلي، إنها ثمن الكوفية الفلسطينية الشهيرة، أو «الحَطّة»، المزدانة بتاريخ المقاومة الفلسطينية.

وما بين تقاطعات حكايا تاريخ المقاومة الفلسطينية، وتقاطعات منطقة حي المهندسين بالقاهرة، يعود الرمز ليتربع على القمة مرة أخرى في أيدي الباعة الجائلين، في تقاطعات إشارات المرور في الشوارع المصرية، من أقصاها إلى أقصاها.

الشاب حسن كوارشي، بائع مصري متجول، 28 سنة، لا يعرف من السياسة سوى أن رئيس مصر هو مبارك، وأن غزة جزء من فلسطين المحتلة. لكن وعيه بالحياة بدا أكثر اتساعا حين لاحظ أن الذين يشترون منه الكوفيات في إشارات المرور هم علية القوم، العابرون بسياراتهم الفارهة، في لحظات الإشارة الحمراء يتوقفون ليضيفوا إلى جيبه جنيهات جديدة، وإلى عروبتهم وإنسانيتهم المهدرة على عتبات السياسة، منفذ ضوء لمخزونهم العاطفي تجاه فلسطين.

كوارشي، الذي حمل هذا اللقب تيمنا بالشاب الأسمر لاعب كرة القدم القديم الشهير في نادي الزمالك، حسبما قال له أبوه، نظرا إلى التشابه القوي بينهما، حقق نسبة عالية من المبيعات بواسطة الكوفية الفلسطينية، التي زاد الطلب عليها مع اشتعال أحداث غزة، وكأن مغادرة الزمان والمكان إلى القلب الفلسطيني النازف، باتت على مرمى حجر من قطعة قماش بلونيها الأبيض والأسود الباهت، ترتديها كلما أردت أن تذكر معاناة فلسطين، بلا عذابات الرؤية وقسوة المشهد! بدأ مهنته منذ نعومة أظافره، متنقلا بين السيارات على اختلاف أنواعها، ببضاعته الصغيرة المتنوعة، ما بين مناديل السيارات وإكسسواراتها الصغيرة ومعطراتها، وأحيانا ميداليات بابا نويل وطراطيره في مع قدوم رأس السنة الجديدة، فيما تتغير المبيعات وتقتصر على الأعلام المصرية في نهائيات المباريات الكروية لمصر، أو أعلام الزمالك والأهلي في القمم السنوية لهما كالعادة.

يقول كوارشي: «لقد غيرت بضاعتي إلى الكوفية الفلسطينية، بعد أن أصبحت تلقى رواجا كبيرا بين الشباب والشابات، خصوصا طلبة الجامعة، وأحيانا بعض الساسة وشخصيات المجتمع الكبيرة، وعرفت أنهم يرتدونها في المظاهرات أو خلال وقفات الاحتجاج ضد إسرائيل».

ويحكي كوارشي: «أعرف أن فلسطين تتعرض لعدوان إسرائيلي، ولكني أسمع من الأخبار أنه قوي وعنيف، وخلف وراءه مئات الشهداء، وأنا مصمم على أن أسميهم شهداء، لأننا عرفنا طعم الحرب، كما يقول لي أبي عن عمي الذي استشهد في حرب 67. قلبي حزين فعلا عليهم، وربما أتت الكوفيات الفلسطينية هذه (أو الحطة) كحلم مضيء في يدي، لأحوال المقاومين هناك».

يضيف كوارشي: «لم أكن أعرف أن الحطة الفلسطينية لها تاريخ عند المقاومة الفلسطينية، وفي بداية بيعي لها كنت أعتقد أنه لا فرق بينها وبين (الغترة) الخليجية، وكنت أشتري التي لونها أحمر باعتبارها أكثر بهجة، فتبيع أكثر! ولكن في مرة استوقفني شاب طلب مني حطة فلسطينية، وقلت له: ماذا تعني؟ فعرفت أنها ذات اللونين الأبيض والأسود الباهت، ومن هنا عرفت أنها الحطة الفلسطينية».

شهادة كوارشي التعليمية المتوسطة لم تمنعه من أن يتابع الأخبار ويعرف القليل عن تاريخ أرضه وعروبته.. فجاء حبه لفلسطين نابع من أن بها القدس، وهي مقدس ديني لدي المسلمين، وأن عدو المسلمين والعرب واحد وهو إسرائيل. ألم تحارب مصر ضد إسرائيل ومات لنا الكثيرون في كل بيت، على حد قوله؟

بالجملة يشتري كوارشي الحطات الفلسطينية من سوق غزة، والتي زادت نسبة مبيعاتها بدرجة كبيرة في الآونة الأخيرة، وبخاصة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع، وما بين دستة ودستة من الكوفيات الفلسطينية، يعود كوارشي ليشتري المزيد منها من السوق في منطقة الزاوية الحمراء بوسط القاهرة، فهي تنفد بسرعة، وكأنما كلما ازداد العدوان وقطعت أوصال الأطفال زاد تعلق الناس بهذه الكوفية الرمز.

ورغم الدافع العروبي أو الإنساني وراء شراء الشباب والشابات الكوفية الفلسطينية، فإن هذا لا يمنعهم من المفاصلة في سعرها الزهيد كما يقول كوارشي: «بصراحة أجد فصالا كبيرا، خصوصا من الفتيات، وأحيانا أرضخ له، وفي أحيان أخرى لا أوافق، خصوصا مع زيادة المبيعات، وعموما هناك من يريدها بأي ثمن».

ويضيف قائلا: «البنات أكثر شراء لها، خصوصا أنها أصبحت موضة لديهن على الجينز، فأنا أراها منتشرة كثيرا في الشوارع بين البنات مثل الكوفيات الشتوية، أما الشباب ففي الغالب يضعونها في سياراتهم على شكل الأعلام في الزجاج الخلفي، أو يعلقونها على مساند الكراسي الأمامية. ولا يقتصر البيع على الشباب والشابات المصريات، فحي المهندسين تقيم به جنسيات عربية كثيرة، ما بين الخليجي والعربي والمغربي، وغيرها من الجنسيات».

وما بين 20 و30 كوفية يبيعها كوارشي في اليوم، تتوالى عملية البيع والشراء والعبور السريع بين السيارات الواقفة في الإشارة لعرض الكوفية على أكبر عدد من قائدي السيارات، رافضا أن يفصح لنا عن هامش مكسبه، ولكنه أردف: «الحمد لله، مستورة، والرزق واسع».

ولا يسلم كوراشي من تعليقات أصدقائه الباعة، وأحيانا عساكر الإشارات المرورية، الذين يقفون لتنظيم عبور السيارات، فيقول: «بصراحة يلقون بعض النكات، خصوصا إذا ما كانت التي تشتري الكوفية فتاة جميلة، ولكنها إجمالا تدخل في إطار المناوشات، حيث يعتبرونني (مجاهد - فرع المهندسين)! ولكني في النهاية أمازحهم وأضحك معهم، فالهم واحد، ولكني في النهاية (واقف آكل عيش)، في المهندسين أو في أي حي آخر»! أما أطرف المواقف التي تعرض لها كوارشي، فهو «اليوم الذي أتت فيه فتاة بسيارتها الفارهة وطلبت شراء 10 كوفيات، لها ولصديقاتها، وفجأة أنارت الإشارة اللون الأخضر، واضطرت الفتاة أن تقود السيارة بسرعة قبل أن يأتي لها شرطي المرور، ومعها الكوفيات العشر دون دفع ثمنها، فجريت وراءها نحو مئة متر، إلى أن شاهدتني في المرآة وتذكرت أنها لم تدفع ثمن الكوفيات!».