ملكات فرنسا الإيطاليات يحولن حكم المرأة إلى أسطورة أرجوانية

المرأة في السلطة: معرض عن كاترينا وماريا دي ميديتشي

زواج ماريا دي ميديتشي
TT

هل حكم المرأة أفضل من حكم الرجل أم العكس؟ وهل تفسد السلطة المطلقة عقول الملوك وقلوبهم وتدفعهم للتحارب، أم تدعو الملكات إلى التروي والحكمة والتسامح؟ الأسئلة سياسية والأجوبة فنية بفرشاة الرسم واللوحات والسجاد المرسوم بالألوان قبل نسجه. هذا ما رأيناه في المعرض الرائع الذي أقيم في قصر ستروتزي ويستمر حتى 8 فبراير (شباط) المقبل في وسط فلورنسا، مدينة الفن والجمال والتاريخ في وسط إيطاليا، التي أطلقت عهد النهضة الأوروبية وقدمت لفرنسا جميلاتها من عائلة دي ميديتشي الشهيرة التي حكمت فلورنسا لمئات السنين ليصبحن ملكات فرنسا خلف الستار يحركن الأحداث ويمارسن الحكم الفعلي قبل أن تتزوج الإيطالية الحسناء كارلا بروني رئيس الجمهورية الفرنسية الحالي نيكولا ساركوزي بخمسمائة سنة.

ولدت كاترينا دي ميديتشي عام 1519 في فلورنسا من أم فرنسية بعد سنتين من نشر النصوص الدينية النقدية لمارتن لوثر حول الكنيسة الكاثوليكية والتي أحدثت ثورة قادت إلى الإصلاح الديني ونشوء الحركة البروتستانتية كما أسهمت في اندلاع الحروب الدينية الدموية بين الكاثوليك والبروتستانت. كانت قصة حياتها صاخبة وحافلة تصلح كرواية مشوقة، فهي ابنة لورنزو دي ميديتشي حاكم فلورنسا العتيد وسليلة أرقى العائلات الأوروبية المالكة للبنوك والأموال، إنما ارتبط اسمها بالحروب الدينية فأشاعوا عنها خلال حياتها التي استمرت سبعين عاما أنها سيئة وشريرة وخسيسة تتعاطى السحر الأسود وتسمم خصومها، لكن التاريخ أنصفها في العصر الحديث، فقد كانت في الواقع معتدلة تريد الوفاق، ومن أفضل ملكات فرنسا عبر التاريخ. كان القانون الفرنسي يمنع أن تحكم المرأة وتتبوأ عرش فرنسا عكس ما كانت عليه الحال في عهد الملكة إليزابيث الأولى في إنجلترا، لذا ظهرت نساء شهيرات في فرنسا قمن بدور الوصي على العرش ومارسن السياسة وحيلها مثلما فعلت كاترينا التي شبت على السياسة في قصر والدها الداهية المتمرس بآراء نيقولو ماكيافيلي المتوفى عام 1527 صاحب كتاب «الأمير» وابن فلورنسا البار في عهود المؤامرات والاضطرابات والمكائد. اقترنت كاترينا بملك فرنسا هنري الثاني من أغنى عائلات أوروبا، وغدت أرملته عام 1559 حين قتله حارسه وهو في الأربعين من العمر، وعاصرت الرسام والنحات الفذ مايكل أنجلو، وخروج ملك إنجلترا عن طاعة البابا في روما، وظهور كالفن المصلح الديني السويسري، ثم الاحتكام إلى السلاح بين الكاثوليك والبروتستانت والحروب بين إسبانيا وإنجلترا واضطهاد البروتستانت في فرنسا وإهدار دمائهم، كما حكمت فرنسا فعليا لمدة 12 سنة وسط أجواء معادية لها في القصر، لكن طفولتها التي ترعرعت في مرعى المؤامرات والاغتيالات السياسية في فلورنسا أسعفتها في لحظة الحاجة وتمكنت من الاحتفاظ بالعرش لعائلتها لكنها فشلت في التوفيق بين الطوائف الدينية المتقاتلة كما رأينا في فيلم «الملكة مارغو» عام 1994 المقتبس عن رواية تاريخية كتبها ألكسندر دوماس وقامت بالبطولة إيزابيل إدجاني وفيرنا ليزي التي أدت دور كاترينا. تذكر الوثائق أن كاترينا كانت معجبة بالصيدلي وعالم الفلك الفرنسي ميشيل نوستراداموس صاحب الكتاب المشهور «التنبؤات» الذي مازالت تعاد طباعته منذ صدوره عام 1555 حتى اليوم فدعته إلى القصر الملكي وطلبت شرحا حول ما تضمنه الكتاب من المخاطر التي ستتعرض لها العائلة الملكية، كما طلبت منه إعداد أبراج أبنائها الفلكية ثم عينته مستشارا للقصر رغم خوفه من محاكم التفتيش واتهامه بممارسة السحر، وكان يشاع بين العامة آنذاك أنه فسر شفرة الإنجيل كما درس أسرار الفراعنة والسحر الكلداني والآشوري.

أما ماريا دي ميديتشي فقد ولدت عام 1575 في فلورنسا واشتهرت بجمالها وكان أبوها فرانشيسكو الدوق الأكبر لمقاطعة توسكانا الإيطالية (وعاصمتها فلورنسا) وأمها من العائلة المالكة في النمسا وتزوجت عام 1600 هنري الرابع ملك فرنسا، لكن الزواج لم يكن موفقا، إذ اضطرت مرارا للتشاجر مع عشيقاته، ثم أصبحت ماريا وصية على العرش بعد اغتيال زوجها حتى بلوغ ابنها سن الرشد ثم استلامه الحكم باسم لويس الثالث عشر، وتأثرت سياستها الخارجية بتوصيات مستشاريها الإيطاليين فأوثقت عرى التحالف مع إسبانيا وانحازت إلى الكاثوليك، ثم أسلم ابنها منصب الوزير الأول إلى الداهية الكاردينال ريشيليو بينما انزوت هي عن الحكم. حكمت كلتا الملكتين بقوة وصلابة في وقت ندر فيه حكم المرأة، وكانتا تستغلان إما صفة الأرملة الحزينة أو المرأة القاسية إنما المخلصة الوفية راعية الفنون والثقافة.

نرى في صالات العرض لوحات للفنانين الإيطاليين القدماء الذين رسموا كلتا الملكتين أمثال سانتي دي تيتو وجاكوبو كيميتي المدعو أمبولي وكلها مستعارة من متحف أوفيزي أو متحف بيتي المعروفين في فلورنسا، والكثير من السجاد المعلق على الجدران الذي ابتكره قدامى المصريين من مختلف الأحجام التي يصل بعضها إلى علو خمسة أمتار يروي قرنا كاملا من التاريخ ويستذكر الأساطير القديمة مثل أسطورة أرتيميزيا وزوجها الذي بنى مقبرة شاهقة كانت من عجائب العالم القديم في هليكارناسوس أو مدينة بودروم التركية السياحية الآن حيث وقعت المعركة الفاصلة بين جيوش الفرس والإسكندر الكبير أيام الإغريق، أو السجادة – اللوحة المعروفة بعنوان «الحوريات الثلاث» وتحتها أبيات من الشعر العتيق تقول: قالت لي الجميلة كلارا أنها ستأتي قريبا ووعدتني الحسناء ليديا نفس الشيء ونفس القدر، أما الفاتنة مارتا فقالت: سنراك بكل تأكيد قبل الظهر، وها قد حل الظهر وانقضى ولم يبدو لهن أي أثر. نرى أيضا تحفا ثمينة مثل صحن الكريستال الفضي المذهب لسفينة نوح والعلبة الخشبية الفضية النحاسية لحفظ المجوهرات والنفائس والأحجار الكريمة وعليها نقوش بارزة محاطة بإطارات فضية وطلاء ذهبي. ما يلفت الانتباه أن كل الشروحات الموضوعة تحت اللوحات أو التحف كتبت بالإيطالية والإنجليزية، وأن الإضاءة كانت ناجحة كما كان التسلسل التاريخي واضحا حتى يتمكن الزوار بمن فيهم الأطفال من متابعته في الصالات السبع التي ضمها المعرض.

ألهمت الملكتان من عائلة دي ميديتشي ملكات الزمان اللائي حكمن أوروبا فيما بعد كإيزابيلا ملكة إسبانيا وماريا تريزا إمبراطورة النمسا وفيكتوريا ملكة بريطانيا، وأعاد المعرض وجودهما إلى الأذهان وإلى استذكار التاريخ وكأنه مازال حيا حتى اليوم. كان ماكيافيلي ينبه في كتاب «الأمير» بأن على الحاكم أن لا يفكر بأي هدف سوى الحرب وقواعدها وفنونها وممارسة القوة والسلطان بحزم وكفاءة دون الالتفات إلى الوسائل المستخدمة، فهذا جزء من براعة الحكم. وكان يقول إن من يفهم ذلك يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة ومن يجنح إلى الدعة والاسترخاء سيكون ذلك السبب في ضياع الحكم، ويبدو أن كاترينا قد تبنت أفكار ماكيافيلي حتى النهاية، أما ماريا فقد أضاعت السيطرة في أواخر حكمها حين تفوق عليها الكاردينال ريشيليو بذكائه ومكره.