اللبناني محمود عيتاني.. يصنع طائرات تحلق في سماء الشغف

عاد من أميركا إلى وطنه ليواصل صنع نماذج «حقيقية» صغيرة

محمود عيتاني مع نموذج لإحدى الطائرات الصغيرة التي يصممها («الشرق الأوسط»)
TT

شغف التحليق، وشغف صنع الطائرات وتركيبها، قادا حياة اللبناني محمود عيتاني ورسماها. من لبنان إلى الولايات المتحدة الأميركية، حزم أمتعته وطموحاته قبل عقود. وحين حط في تلك القارة، لم يحتج إلى الكثير من الوقت ليحلق من جديد في سماء تحقيق الأحلام. فمنذ التحاقه بجامعة «نورثروب» الأميركية للتخصص في هندسة الطيران، انكب على الدرس حتى تمكن، وفي عامه الأول، من صنع طائرته الأولى وكان في التاسعة عشرة! واليوم بات في رصيده 250 طائرة، وهو محترف خاص في منطقة بشامون في جبل لبنان حيث يصنع الطائرات الحقيقية الصغيرة المزودة بأجهزة تحكم عن بعد، ويستقبل محبي تعلم أصول قيادة الطائرات والمناورة بها من الأرض ليدربهم على التقيد بالتعليمات الدقيقة التي توجب التمتع بطول الأناة والهدوء للتمكن من التغلب على الصعاب ومعالجة الأعطال.

كان طموح عيتاني الجامعي الحصول على شهادة الدكتوراه، لكنه أجبر على التوقف عن الدرس «لأنني لم استطع مواصلة تسديد أقساط الجامعة».

ويروي محمود عيتاني لـ«الشرق الأوسط» في محترفه، «بذلت كل ما في وسعي لدرس هذا الاختصاص. عملت نادلا وعامل تنظيف وميكانيكيا وموسيقيا، ذلك أنني أعزف الأكورديون والدرامز والكيبورد. لكنني لم استطع أن اعمل في مجال اختصاصي خلال فترة دراستي لان تأشيرتي لا تسمح بذلك».

وحين أنهى دراسته في عامه الخامس والعشرين، حصل على وظيفة في شركة متخصصة في صنع قطع للطائرات وذلك بعدما نال «البطاقة الخضراء» (green card). وبفضل جدارته وتصميمه، صعد السلم سريعا اذ تمكن خلال فترة وجيزة من أن يصبح مديرا للإنتاج. وهكذا أخذ يبني حياته المهنية في المهجر، حتى قرر بعد 26 سنة التقاعد والعودة إلى لبنان لـ«أسباب عائلية».

إنما هذا القرار، لم يأت عشوائيا أو عاطفيا فحسب، بل كان مبنيا على أسس واضحة. فالأهم بالنسبة إلى هذا الرجل المولع بالطيران، هو ألا يتخلى عن شغفه الأول والأوحد: الطائرات! قام بزيارات عدة للبنان للحصول على الإيضاحات حول مدى رواج هذه الهواية بين اللبنانيين. وبعدما تأكد من وجود قطع صيانة، عاد حاملا طائراته الثلاث عشرة التي كان قد صنعها طوال تلك الأعوام. لكنه سرعان ما اصطدم بالعقبة الأولى إذ «أقفلت الشركة التي كنت سأعتمد عليها لتوفير القطع التي أحتاج إليها». لاحقا، تعرف إلى مجموعة من الشباب الذين يمارسون هواية اطلاق الطائرات والتحكم فيها. فصار اللقاء شبه منتظم في مدرج بعدران في الشوف اللبناني، ما ساعده على الاطلاع على الكثير من المشكلات التقنية التي تواجه محبي هذه الهواية ومعالجتها وتزويدهم بعض الارشادات. لاحقا، «صار البعض يطلبون مني صنع طائرات لهم». وهكذا ذاع صيت هذا المهندس تدريجيا حتى وصل الى بعض الجامعات ومنها الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا (AUST) في بيروت حيث حاضر وأعطى دروسا لثلاثة اشهر لطلاب الهندسة الميكانيكية والالكترونية. وفي نهاية الفصل، صنع ستة طلاب طائرة بإشرافه وتوجيهه حتى اصطحبهم الى مطار بعدران ليختبروها. بعد تجربته في الجامعات، لاحظ وجود خلل في النظام التعليمي، لان الطلاب لم يكونوا معتادين على ابتداع حلول لمشكلات لم ترد في الكتب. لذلك قرر تقديم استشارات ودورات للراغبين في تعلم الطيران، «خصوصا وإن عددا كبيرا من الطلاب صاروا تواقين لشراء الطائرات التي أصنعها. فكان علي الحصول على رخصة لأتمكن من استيراد بعض المواد. وهكذا أسست شركتين في عام 2007». ويوضح عيتاني ان صنع كل طائرة «يحتاج بين ستة وثمانية أشهر، فيما لا يستغرق تجميعها أكثر من 25 ساعة. في البداية، حاولت الاستعانة بخرائط اشتريتها من الولايات المتحدة ولكن بعد التدقيق فيها، اتضح لي ان هناك اخطاء تشوبها. فقررت رسم الخرائط بنفسي ووضع المقاسات التي أراها مناسبة».

ماذا عن مواصفات الطائرات التي تتدلى من سقف محترفه؟ يوضح عيتاني انها «مصنوعة من الخشب الرقائقي الخاص بالطائرات وخشب البلصة الخفيف جدا، انما يصبح صلبا ومتينا كالحديد اذا اتبعت الارشادات الصحيحة في طريقة تقطيعه وبنائه. بعد التقطيع والبناء يغلف الخشب بورق بلاستيكي لاصق، ونلجأ الى الكي للصقه. وهذا يتطلب عناية فائقة لتأتي الاشكال متناسقة. وتختلف سرعة كل طائرة عن الاخرى فبعضها يتراوح بين 70 كيلومترا في الساعة و80، والبعض الآخر كطائرة الـ«توربين» تصل سرعته الى 320 كيلومترا في الساعة. اما ارتفاعها فيمكن ان يصل الى 1500 متر، لكننا نحافظ على ارتفاع 250 مترا او 300 حتى نتمكن من مراقبة حركتها والاستمتاع بشكلها فيما نتحكم فيها من الارض بواسطة الريموت كونترول». ويبدأ سعر الطائرة مع العدة اللازمة لتشغيلها من 700 دولار أميركي وقد يصل الى 25 ألفا اذا زودت بأجهزة متطورة جدا للتحكم فيها بواسطة الكمبيوتر. وكلما ازدادت تقنيات الطائرة تعقيدا ارتفعت الكلفة. ولكي يصبح التلميذ جاهزا للاقلاع والهبوط، عليه بعد الانتهاء من التدريبين النظري والتقني، خوض 15 رحلة تستمر كل واحدة 10 دقائق، يتعلم خلالها التعامل مع الاعطال التي قد تطرأ على المحرك ومع التغيرات في احوال الطقس، لينال في الختام شهادة تقديرية. ويمكن للراغب أن يتدرج من قيادة الطائرات المخصصة للهواة مرورا بأنواع من الطائرات الاكثر حرفية وصولا الى الطائرات الحقيقية المصغرة». يبقى ان عيتاني اطلق اسم الفنانة نانسي عجرم على احدى طائراته من طراز «بيبر كلوب» وهي نموذج لطائرة حقيقية، ذلك لانها طائرة بطيئة وحركتها متمايلة وكأنها تتدلع. وفي داخلها مجسم لطيار اسمه «انكل بوب».