الفنان الكردي يؤثث ذاكرة المتلقين بمآسي شعبه

أقنعة إسماعيل خياط تطل على وجوه كردستان

من أعمال الفنان («الشرق الأوسط»)
TT

الفنان التشكيلي الكردي العراقي إسماعيل خياط لا يرسم، بل ولا ينحت، هو يجرب، التجريب هو الوصف الأكثر قربا والتصاقا بالخياط الذي لم يمل أو يتردد عن تأكيد اللاأسلوب في أسلوبيته.

في بداية الثمانينات كان يعرض في صالات بغداد للفن التشكيلي لوحات منفذة بلونين، أو لون واحد بواسطة قلم الفحم الأسود على ورق ابيض، أو قلم ذي لون بني على ورق أبيض، كانت تلك مرحلة المتحجرات، كان ينقب كأي أثري بين الصخور ليخرج إلى المتلقي بهذه المتحجرات، التي تبدو كأنها جاءت منذ آلاف السنين لتستقر في أعمال خياط.

بعدها قدم وبكل جرأة تجربة جديدة في الفن التشكيلي العراقي، إذ عرض في لوحات مصغرة، أعمالا صغيرة قد لا تتجاوز مساحة اللوحة الواحدة 2x2 سم، ووضع متعمدا قرب كل جدار تعلق عليه اللوحات عدسات مكبرة تمكن المتلقي من تفحص اللوحة بشكل مريح، وقتذاك علق خياط قائلا، إن«كل عمل معروض هنا هو لوحة متكاملة، لا يهم أن تكون اللوحة كبيرة أو صغيرة، المهم أنها تحمل شروط العمل الفني، وهذه الشروط متوفرة في تلك الأعمال».

في مدينته السليمانية، أسس خياط لنفسه، وبعد سنوات من العمل الفني مختبرا، هو أو غيره يسمونه مرسما، لكننا نطلق عليه تسمية المختبر، التي يوافقنا خياط عليها، كونه يدرب، يجري تجاربه الفنية فيه، تماما مثلما يجري أي عالم كيمياء أو فيزياء تجاربه العلمية في مختبره العلمي، لكن خياط كان يجري بحوثه في الموضوع واللون ليخرج إلى المتلقي بنتائج مفاجئة جدا.

في معرضه الذي افتتح مؤخرا، يجسد إسماعيل خياط معاناة شعبه إبان حقبة الثمانينات، في أعماله التي تتضمن عشرات من اللوحات تشكل وثيقة تاريخية تذكر بمراحل من التشرد والتدمير.

يقول خياط «من خلال 44 لوحة تقترب كثيرا لأن تشكل وثيقة إبداعية تاريخية للواقع التراجيدي للشعب الكردي في تلك الفترة وحجم المأساة التي شهدتها مدن تشرد أبناؤها وتدمرت».

أعمال المعرض هي الأخرى تشكل تجربة، لا تزال جديدة، وستبقى هكذا حتى ينتهي منها الفنان، وهي الأقنعة، فمنذ أقل من عامين وهو يشتغل على هذه الأقنعة رسما وتجسيدا، الأقنعة التي تخفي وتظهر في آن واحد، تغيب وتعلن في الوقت ذاته، تلك الأقنعة التي فاجأت الجمهور البريطاني عندما عرضها في صالة الكوفة قبل أقل من عامين، كما فاجأت الجمهور الفرنسي خلال عرضها في باريس مؤخرا.   يتحدث خياط، وهو واحد من التشكيليين الأكراد المعروفين، قائلا «بعد عام 2003، قمت بزيارة مدينتي خانقين بعد أن غادرتها قبل 25 عاما، فقررت إقامة معرض فني بشكل سنوي» فيها.

   وكان أول معرض عام 2003 «بعد التحرير» كما يقول الفنان موضحا «أقمته فوق أطلال منزلي القديم وبقايا جدرانه التي رسمت عليها للمرة الأولى عندما كنت في السابعة».

ويشير إلى «ما تعرض له الأكراد من إبادة واضطهاد من قبل النظام السابق، فهذه الأعمال الفنية وثائق تدين المأساة والجرائم وتذكر بالمعاناة».

وقد أنجز قبل أعماله الجديدة مجموعة من الرسومات أطلق عليها «الموت في حلبجة» ولوحات سماها «ذاكرة الأنفال».

وقد قصف نظام الرئيس الراحل صدام حسين مدينة حلبجة الكردية بالأسلحة الكيميائية في 16 مارس (آذار) 1988، ما أدى إلى مقتل بين أربعة إلى خمسة آلاف شخص، بحسب الأكراد. أما حملات الأنفال التي نفذها نظام صدام حسين ضد الأكراد في شمال العراق عامي1987 – 1988، فقد أدت إلى مقتل نحو مائة ألف شخص وتدمير أكثر من ثلاثة آلاف قرية، بحسب التقديرات، وحركة نزوح كثيفة للسكان الأكراد.

وتعكس «الأقنعة» وجوه رجال وأطفال ونساء «من دون ملامح واضحة، تبرز منها وجوه مهشمة، وقد رسمت بعضها بأسلوب التخطيط بأقلام من رصاص وحبر، كما استخدمت ألوان مائية رمادية تتمتع بمزايا تعبيرية» كما يشرح الفنان.

ويقيم الفنان معرضا لأعماله في مسقط رأسه خانقين، شمال شرق بغداد، بعد الانتهاء من جولة في أكثر من مدينة أوروبية.

وافتتح المعرض الذي يستمر عدة أيام، هذا الأسبوع في قاعة «كرمة سير» وتعني بالعربية المناطق الحارة، وتملكها مجموعة من الفنانين الأكراد الشباب، وتأسست عام 2003 بدعم من خياط، الذي قرر أن يقيم معرضا شخصيا كل عام. ولد خياط في خانقين التابعة لمحافظة ديالى عام 1944، وأنهي دراسته في معهد الفنون الجميلة عام 1966.

وقرر اختيار المدينة لمعرضه الذي لقي «إقبالا واسعا» في باريس وأوسلو ولندن ونيويورك وبروكسل وليل الفرنسية.

وشغل خياط مهام في مجال التدريس والإدارة في دائرة الفنون التشكيلية إبان السبعينات، قبل أن يستقر في السليمانية منذ أكثر من ثلاثين عاما، تاركا في مسقط رأسه خزانا من الذكريات.

ويستعد خياط، الذي يتوقف نقاد الفن التشكيلي العراقي عند تجربته الإبداعية المتفردة وأسلوبه الخاص، لنقل هذه الأعمال مع مجموعة أخرى من لوحاته إلى إيطاليا حيث سيقيم معرضا.