بائع الفول السوداني الذي أصبح أحد معالم عمّان

جاء من نيجيريا لزيارة المسجد الأقصى واستقر أمام سوق الذهب

أبو أحمد.. الرجل الظاهرة («الشرق الأوسط»)
TT

مع أن سوق الذهب في أي مدينة تحظى بشهرة كبيرة وتكون عادة معروفة للجميع، فإن الشيخ النيجيري العجوز الذي يقف في واجهة سوق ذهب العاصمة الأردنية عمّان منذ أكثر من خمسين سنة، ربما يحظى بشهرة أكبر. وخصوصا أن من يقصد السوق لشراء الذهب أو بيعه لا بد له من تناول الفول السوداني الساخن المميز الذي يعده الحاج عمر «أبو أحمد» بطريقته الخاصة في عربته الصغيرة.

فبمرور السنين أصبح المكان الذي يقف فيه «أبو أحمد» مَعْلما وعنوانا للمارة والقاصدين وسط عمّان. وصار البعض يتواعد مع صديقه بجانب «بائع الفستق» (أي الفول السوداني) عند الباحة الصغيرة جهة «نزلة الشابسوغ»، الملحقة بمدخل سوق الذهب بوسط البلد، ويعرفها الناس هناك من خلال الإشارة إلى أشهر بائع فول سوداني أسمر البشرة، يخرج إلى الباحة قبيل شروق شمس يوميا، ويمكث هناك حتى الغروب.

الحاج عمر - أو «أبو أحمد» - القليل الكلام والبطيء الحركة، يكفي ذكر أوصافه الشكلية ومهنته لبيان تفاصيل الطريق ذهابا وإيابا، وفور الوصول إليه وطلب بعض مكسراته التي يضعها في أكياس ورقية بنّية اللون ترأف بالبيئة، يطلق ابتسامة هانئة دون أن يهمس أو ينادي على بضاعته، مكتفيا بهز رأسه شاكرا، ويرد عند سؤاله بنبرة ثقيلة اللسان وكلمات عربية متعثرة بما معناه «قليل مستمر أفضل من كثير منقطع».

أبو أحمد، النيجيري المولد، جاء إلى عمّان منتصف القرن الماضي، قادما من فلسطين.

كان الرحيل قبل نكبة فلسطين عام 1948، حين انتقل من مصر إلى هذه المنطقة بقصد الحج مع إحدى القوافل، قبل أن يقرر المضي وحيدا إلى المسجد الأقصى، ويطول به المقام حتى عام 1950. وفي ذلك العام جاء إلى الأردن بأصابع محروقة من عمل لم يتقنه في مزرعة بفلسطين.

واستقر أبو أحمد في زاوية عند واجهة سوق الذهب - أو كما يسميها البعض «سوق الصاغة» - ليبيع الفول السوداني الطازج. وعلى مدى نصف قرن أسس له دائرة واسعة من الزبائن، وغدا أشهر بائع مكسرات عرفه الأردنيون.

المارة يألفون هيئته الصغيرة وحركاته المقتضبة في أثناء تقليبه الفول السوداني، بأصابع مبتورة يعلق عليها القشر الناعم، ويملأ الكيس البني الصغير، ثم يزيد حبات أخرى فوق الميزان، منتظرا ابتسامة رضا من الزبون.

يجزم البعض من جيرانه في السوق أن كثيرين من مختلف الفئات الاجتماعية يعرفون أبو أحمد، وجلهم تذوق إنتاجه الساخن الشهي الذي يعدّه في الصباح الباكر على عربة صغيرة تحتوي حطبا يشكل موقد نار هادئة. ويؤكدون أن سياحا عربا وأجانب يتكرر مجيئهم إلى عمان، يذهبون مباشرة إليه ليشوي لهم الفول السوداني على صفيحة معدنية على هيئة صاج قديم.

ويشير مقربون منه إلى أنه صادق ومقل في الكلام، الذي ما يزال ثقيلا على لسانه حين ينطقه بالعربية. ويحيلون السبب إلى قلة كلامه واحتكاكه مع من حوله، حتى إنه لا يضطر إلى النداء على بضاعته، وليس لديه نداء محبب، على غرار الباعة الذين ينادون عادة لترغيب الزبون في بضاعتهم.

مع هذا، فإن ذاكرة أبو أحمد قوية، وفق جيرانه وأصدقائه، رغم تخطيه سن الثمانين، حين يتحدث باقتضاب - طبعا - عن الأيام الخوالي.

أحد الزبائن يقول إنه يأتي إليه بشكل شبه يومي لشراء الفول السوداني، وإن هذا بات طقسا ضروريا يؤديه عند إيابه من المدرسة، مضيفا أنه «يفضل ما يعده أبو أحمد على إنتاج المحامص التي تبيعه بأسعار مرتفعة، رغم أنه ليس طازجا مثله». ويتابع بأنه لا يتذكر إن كان مر يوما في البلد دون أن يجد أبو أحمد في مكانه المعهود.

ويذهب البعض منهم إلى أن هذا الرجل - الظاهرة، الذي «اكتسب محبة الناس لبعده عن الادعاء وزهده في الحديث عن نفسه وبضاعته»، أضاف حقا، كحفنة من مشاهير الأشخاص والمؤسسات، أبعادا حية إلى معالم وسط عمّان الغائرة في التاريخ، حتى باتت الأماكن الصغيرة التي يشغلونها معروفة بأسمائهم.

وذات يوم توقفت الملكة رانيا العبد الله، خلال جولة لها وسط البلد، مطولا عند أبو أحمد، فتحدثت إليه واطمأنت على أحواله وأوضاع أسرته، قبل أن تبتاع من إنتاجه.

إنه أب لسبعة أبناء من زوجة مصرية، استطاع تربيتهم وتعليمهم حتى المرحلة الجامعية، بصبر، وثقة في أن القليل العفيف «أكثر بركة». أحدهم درس الهندسة في القاهرة، وأصغرهم يحاول مساندته أحيانا.

ويؤكد أبو أحمد أنه حريص على تعليمهم من ربحه البسيط وادخاره اليومي، وتقليص احتياجاته هو وشريكة حياته، غير أنه يرى في مواظبته على جرّ عربته الصغيرة والجلوس في زاويته الدائمة متعة وإحساسا بنشاط ينفي إصابته بالوهن وانتهاء دوره، معقّبا: «ما دمت بخير لن أتغيّب عن مكاني، وإذا حدث فهذا يعني رحيلي عن الدنيا». وحول ما اعترى بعض أصابعه المبتورة، يوضح أنه تعرض لحادث آلة قاطعة إبان عمل لم يتقنه في مزرعة في أثناء مكوثه لفترة قصيرة في فلسطين.

أما علاقته بالصاغة، الذين تضمهم سوق الذهب، فلم تتجاوز اقتناء قطعة واحدة محدودة السعر لتقديمها لإحدى بناته عند زواجها، دون محاولته الاستفسار عن غيرها وأنواعها وقيمتها ومادة تصنيعها، ولو من باب الفضول. ثم يستدرك أن بعض من يترددون على السوق ينطلقون إلى ممراتها بعد نيلهم جزءا من مكسرّاته الطازجة.