40 سجينا يقدمون مسرحية غاضبة أمام كبار مسؤولي الدولة اللبنانية

التجربة الأولى من نوعها في العالم العربي

المخرجة زينا دكاش خلال جلسات التدريب والمساجين في سجن رومية يقومون بالتدريبات النهائية على المسرحية (رويترز)
TT

عند الساعة الثانية بعد ظهر أول من أمس، لم يكن ضروريا أن تسأل عن الطريق المؤدية إلى «سجن رومية»، إذ يكفي أن تتبع خط وجود القوى الأمنية التي تقف بكثافة عند كل مفترق لتصل إلى غايتك. فهذا ليس نهارا عاديا، وبعد قليل سيمر من هنا كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين في الدولة، متوجهين إلى اكبر سجن في لبنان لحضور مسرحية يحضّر لها المساجين منذ سنة. الوصول إلى السجن الذي يوجد فيه كبار المجرمين في لبنان، لا يعني الوصول إلى صالة العرض، حواجز تتلوها حواجز حديدية ضخمة، وفي كل مرة يسألونك عن الاسم والمهنة ويدققون في لوائحهم، في ما الكلاب البوليسية تعمل بنشاط لكشف أي دسيسة تخرب هذه التجربة الفريدة من نوعها في العالم العربي. أعداد غفيرة من الجنود استنفرت لهذه الغاية، وقرب صالة العرض، تقف الفرقة الموسيقية لقوى الأمن الداخلي، لتؤدي التحية للواصلين الرسميين، بينما فرقة من المغاوير، وهي الأشد بأسا وقوة في الجيش اللبناني، ترقب وتحرس من بعيد باب الصالة التي جهزت خصيصا لهذا العرض المسرحي.

في الداخل أحيطت قاعة العرض بمقاعد بلاستيكية خصصت للمتفرجين وضعت على مدرجات، في ما تتوسط القاعة طاولة كبيرة مستطيلة حولها مقاعد بلاستيكية ايضا سلطت عليها البروجكتورات، مما يشي بأن المسرحية ستؤدى هنا وسط الحضور. وزيرة التربية، بهية الحريري، كانت في مقدمة الواصلين، تبعها وزير الداخلية زياد بارود ووزير التنمية الإدارية إبراهيم شمس الدين وزوجة رئيس الوزراء هدى فؤاد السنيورة، وكبار الأمنيين، إضافة إلى قضاة وضباط ومسؤولين كبار عن السجون وسفراء. أحطنا علما بأن من يريد الذهاب إلى المرحاض عليه ان يفعل الآن، وإلا فإن ذلك سيكون متعذرا بعد إغلاق الباب وبدء المسرحية. الممثلون لم يتأخروا، خرجوا علينا من باب حديدي إلى جانب الغرفة واحتلوا الجانب القريب من باب الخروج وبدأوا يغنون نشيدهم الخاص، بعد ان سمعنا النشيد الوطني اللبناني. نشيد المساجين مؤثر للغاية، فهم الذين ألفوا ولحنوا، وكتبوا جزءا كبيرا من نص المسرحية المقتبسة عن نص للأميركي ريجينالد روز، وهم الذين صمموا الديكورات والإضاءة. سجين محكوم عليه بالمؤبد يبدأ العرض وسط القاعة متحدثا عن تجربته التي «لا تختلف عن الإعدام إلا في أنها موت بطيء، بينما الإعدام موت سريع. لماذا لا يعاملوننا كما في السويد، نخرج لنعمل ثم نعود. أنا شخصيا أؤكد لكم أنني سأعود للسجن ولن أهرب». أحداث المسرحية تحدث في بلد اسمه «ليبانوميكا» بين لبنان وأميركا، و12 شخصا يدخلون ليجلسوا حول الطاولة المستطيلة ويتداولوا في أمر شاب صغير مهدد بحكم الإعدام بتهمة قتل والده بطعنة سكين. تبدأ المداولات لنفهم بأن التهمة ثابتة على الشاب، وعندما يعترض أحد أعضاء اللجنة على الاتهام السريع، يثير غضب الآخرين، تبدأ المداولات تأخذ طابعا آخر. الشكوك تبدأ تساور لجنة المحلفين التي كانت متأكدة من حكمها، وهي تراجع ما كانت تعتبره «دلائل ساطعة». المداولات تحدث على مراحل، تصحبها أو تتخللها موسيقى حية يعزفها المساجين الذين أجادوا في الألحان كما كلمات الأغنيات والعزف الذي أدوه. تفاعلت القاعة وصفقت لهم بحرارة وهم يغنون «نحنا كنا صغار كبرنا، ما لقينا مين يفهمنا، حرب وفقر ونار وجوع، خلقنا بهالوطن الموجوع، حنّوا علينا شبعنا دموع، أنا عم قلك نحنا غلطنا». وكانت اللحظة الأقوى عندما أدت مجموعة من المساجين ما أسمته رقصة الروتين. هنا بلغت الاحترافية مبلغها، إذ استطاعت مجموعة السجناء أن تجسد على وقع موسيقى غربية صاخبة مجمل الحركات التي تقوم بها في نهاراتها الرتيبة، حلاقة الرأس على السريع، وفي الطوابير، النوم، مشاهدة التلفزيون، والكبس المتواصل على الريموت كنترول، الرياضة، وحتى التضارب والتصارع وصولا إلى رقص الدبكة الجماعي. ولتأدية هذه الوصلة البديعة والمعبرة استخدم المساجين كافة أرجاء القاعة واعتلوا الكراسي، كما لم يوفروا السلم الحديدي الذي يؤدي إلى طابق علوي. وإذا كانت الخشبة التقليدية بستارتها قد غابت عن هذا العرض، فإن ستائر مخملية حمراء عوضت النقص بأن غطت كل النوافذ وكذلك الحائط الرابع للغرفة التي استخدمت ليطل من ورائها احد المساجين وهو يهرع للقاء أمه أثناء إحدى زياراتها له. وخلال المسرحية التي دامت ساعتين وقسمت إلى لقطات أو ما يشبه الاسكتشات استطاع السجناء أن يرووا أيضا حكاياتهم الحقيقية، كفواصل بين المشاهد الأساسية التي تسلط الضوء على لجنة المحلفين المجتمعين حول الطاولة الذين ينتهون إلى الإقرار بعدم كفاية الأدلة لإعدام الشاب. هكذا ينجو إنسان من حبل مشنقة كانت ستلتف على عنقه، بفضل صوت واحد اعترض في البداية. لكن الاسكتشات التي تخللت هذه الجلسات الطويلة كانت بليغة ومستقاة من واقع السجناء، فهذا يحكي قصة اغتصابه لفتاة ويعتذر لها طالبا مسامحته، أمام ما يناهز 200 متفرج وقد كرجت الدموع من عينيه، وذاك يحكي كيف أن خطأ جعله وراء القضبان عندما حوكم كتاجر مخدرات بينما هو ليس سوى متعاط صغير، وذاك آت من نيجيريا ليلوذ بالديمقراطية اللبنانية فوجد نفسه في السجن. القصص كثيرة ومؤلمة، شارك في تمثيلها عدا اللبنانيين مساجين من مصر وسوريا والعراق ونيجيريا وبنغلادش. لكن المخرجة وصاحبة المشروع زينا دكاش، المعروفة بأدائها الكوميدي في البرنامج التلفزيوني الساخر «بس مات وطن» والمشهورة بشخصية «إيزو» استطاعت ان تجعل مشاهد متعددة من العمل ذات نكهة كوميدية غير متوقعة. وكان أكثرها إضحاكا عندما تنكّر أحد المساجين بثياب امرأة سمينة وجلس مع الجمهور مناديا المخرجة بصوت نسائي بأنه يريد ان يذهب إلى المرحاض وإلا لما تمكن من ضبط نفسه، فالخوف من المجرمين الذين يحيطون به جعله غير قادر على الإمساك بحاجته إلى التبول. هكذا سخر المساجين من أنفسهم، ومن الحضور، قدموا اعتذاراتهم لمن أخطأوا في حقهم، تحدثوا عما يجيش في صدورهم، وهم بياقاتهم والبدلات التي لبسوها، بدوا أنيقين، محترفين، وبعضهم يستحق أن ينضم إلى فرقة تمثيل أو رقص أو موسيقى حين يخرج من السجن. وعندما أنهوا عرضهم، لم يجد الحضور بدا من التصفيق لهم وقوفا، احتراما لجهودهم الجبارة، وهم يخرجون من القاعة التي احتضنتهم كممثلين، ليتلقفهم الحراس خارجا ويعيدونهم إلى واقعهم الأليم، وإلى زنازينهم الرطبة. تجربة بدت لمن عاشها، من مساجين ومتفرجين، استثنائية وتستحق الجهد المبذول من أجلها، ونجاحها كما تحدثت المخرجة يعود بالدرجة الأولى إلى الاتحاد الأوروبي الذي مولها، لكنه يسجل أيضا للمسؤولين والمعنيين وجمعيات أهلية على رأسها «كاثارسيس» التي أسستها المخرجة للعلاج بالدراما، و«جمعية الدفاع عن الحقوق والحريات/عدل»، وعلى رأسها النائب غسان مخيبر. وسيسهم في نجاح هذه التجربة أيضا وبشكل كبير الشعب اللبناني بأسره الذي ستفتح له أبواب السجن يوم السبت من كل أسبوع لمشاهدة المسرحية بدءا من السبت المقبل وحتى نهاية شهر مارس، وكل ذلك يتم بالحجز مسبقا بالاتصال على الرقم: 03162573. استطاع السجناء بخفة ظلهم أن ينسونا أنهم سجناء، ووزير الداخلية زياد بارود الذي جاء بملابس غير رسمية، بينما كان السجناء يلبسون الكرافاتات، استغل فرصة وصوله باكرا ليجول في أرجاء القاعة ويقرأ على الجدران ما كتبه السجناء من عبارات تطالب بإنصافهم، إحداها لغاندي «العين بالعين والسن بالسن ويصبح العالم برمته أعمى». وقد ساهم الممثلون/السجناء، الذين عملوا وفقا لبرنامج يسعى لإعادة تأهيلهم بالدراما، أن يشاركوا من خلال موضوع مسرحيتهم هذه بالحوار اللبناني القديم/الجديد حول إلغاء الحكم بالإعدام الذي تسعى من أجله جمعيات كثيرة في المجتمع المدني، وفوق كل هذا فإن تفاعل المتفرجين العاديين خلال الأسابيع المقبلة للعروض سيظهر إلى أي مدى تستحق هذه التجربة التعميم على السجون التي تأسر خلف قضبانها في لبنان 7 آلاف سجين، يعترف الجميع بأنهم يعيشون في ظروف مزرية. وأثناء مغادرتنا باحة السجن التي تطل عليها مباني المحكومين، كنا نسمع صراخا أليما، ونداءات السجناء لبعضهم البعض من مبنى إلى آخر، نداءات مخيفة تشبه العويل، ذكرتنا أننا في سجن حقيقي ولسنا في مسرح مترف. فالغاضبون كثر والتجربة المسرحية لا تزال في أولها.