معمر سعودي أمي يتحدث أكثر من 4 لغات

إدريس قاد مظاهرة في الحبشة بعد الحرب العالمية الثانية

محمد نحاس الملقب بإدريس يتحدث لـ«الشرق الأوسط»
TT

محمد بن علي حناس الملقب بـ«إدريس»، سماه والده نتيجة لرؤيا في المنام ثلاث ليال متعاقبة وهو يرى في المنام شخصا يؤكد له مقدم مولود جديد ذكر وطلب تسميته بمحمد ولقب إدريس، ويعد إدريس، الذي يعمل «عريفا» لقرية الدارين بيضان أحد أحياء منطقة الباحة جنوب غرب السعودية، أحد أبرز المعمرين في المنطقة بأكثر من مائة وعشرين عاما يمارس حياته الطبيعية كأي إنسان يصغره بنصف قرن، مرجع لقصص القدامى، ومؤرخ يحتفظ بوقائع وأحداث ونتاج شعري شعبي لعشرات السنين، حتى أصبح مزارا للباحثين عن الموضوعات التاريخية للمنطقة.

«الشرق الأوسط» التقت به في حديث الذكريات عن قرن وعقدين مليئة بالمتاعب والرحلات أجاد فيها اللغة الإيطالية بطلاقة واللغة الحبشية والإريترية ولهجات محلية في القرن الأفريقي الذي قضى فيه قرابة ثلاثين عاما في أوائل القرن الماضي، عندما كانت المملكة تعيش الحاجة لقلة الموارد، إذ كان المواطنون يعتمدون على الزراعة، و تحدث عن تجربته في السفر وعمره عشر سنوات إلى مكة ثم إلى قارتي أفريقيا وأوروبا بعد أن أصبح يتيما بوفاة والده.

يقول العم إدريس وهو يروي قصة سفره لـ«الشرق الأوسط» إنه التقى محمد الحباب أحد أبناء الظفير، وهي قرية قريبة من قريته، وفكرا في السفر للخارج بعد أن سمعا بأن الإيطاليين استعمروا بعض بلدان أفريقيا ومنها أثيوبيا وأريتريا وأن العرب اتجهوا لهذه البلدان بقصد الاسترزاق والبحث عن العمل وحصل على ورقة تصريح من الأمير للسفر خارج المملكة وقررا السفر عن طريق عقبة الباحة باتجاه المخواة، وهي محافظة في تهامة، سيرا على الأقدام ثم مع قوافل الجمال كدليلين لهم لعدم معرفتهم بالطريق إلى القحمة والبرك وأم الخشب وهي مدن باتجاه جيزان، وعند وصولهما لمرسى السواعي وجدا «الساعية» وهي السفينة التي ستنقلهما متعطلة. حكى إدريس عن صراعهما للأمواج بعد عطل في السفينة في عرض البحر لأكثر من أربعة أيام مع نحو 30 شخصا، وعند وصولهما إلى ميناء مصوع اشتغلا بحراسة السيارات وركابها بمبلغ مجز في وقت لم يكن الأمن يعرف طريقا لتلك المناطق، خاصة في المدن مع وجود الإيطاليين.

يقول إدريس إنه افترق وزميله الحباب الذي سافر للمهمة نفسها في السودان بينما اتجه هو إلى اريتريا حيث تعرض لمرض في قدمه وطلبوا منه العودة للسعودية. يقول «رفضت العودة برجل واحدة واتجهت إلى أغردات بعد أن سمعت بوجود علاج مجاني على حساب الإيطاليين ثم وجدت أناسا من نفس قريتي هناك وبينهم أحمد فريخ القحم من شبرقة ببني حسن وعدد من أبناء غامد ساعدوني على البقاء حتى شفيت».

مارس إدريس التجارة في قندر وعدوه ومغلي، ثم عاد لأسمرة وتعاقد مع شركة إيطالية وأصبح وكيلا لها في تصدير التجارة ومنها الجلود والقطن، وتعرف على معظم مدن وقرى أثيوبيا وكذا الصومال ومدنها وأصبح يجيد اللغة الإيطالية والحبشية والإريترية وعددا من اللهجات المحلية، ومارس عمل الترجمة للقادمين من العرب، وأصبح بمثابة قنصل للعرب القادمين من السعودية واليمن ودول الخليج العربي عن طريق الكفالة غير الملزمة لعدم وجود نظام في هذه البلدان المستعمرة.

سافر إلى أوروبا والتقى غرم الله بن زنان الزهراني وهو من أبناء قبيلته في مرسيليا يمارس التجارة بعدها تزوج من عربية مقيمة مع والدها السوري ووالدتها التركية في إيطاليا وبقي معها عاما ثم قامت الحرب العالمية الثانية حيث قفل راجعا إلى الحبشة حتى وقت خروج الإيطاليين وحل مكانهم الإنجليز والأميركيون وأعيد الإمبراطور المخلوع هيلا سلاسي من المنفى. وبدأ الأثيوبيون يضيقون على العرب الموجودين معهم. وقاد محمد إدريس مظاهرة سلمية أمام قصر الإمبراطور فواجهتهم قوات الأمن وفي حيلة منه دخل للقصر وخرج وأخبر العرب بأنه واجه الملك وطلب حضورهم صباح اليوم التالي، ثم لبس الزي السعودي وقاد المتظاهرين راكبا الخيل، وسمح له ولآخر يختاره لمقابلة هيلا سلاسي فدخلا وقابلاه، وتحدث هو معه باللغة الأثيوبية، وفي ختام الحديث سأله الملك باللغة العربية من أي بلد أنت وكيف أجدت اللغة وكم وأنت في البلد، فأخبره بأنه سعودي أحب اللغة فأتقنها فأمر الملك بفتح محلاته التجارية و لكن إدريس قرر بعدها العودة في رحلة تعيسة نال فيها من المتاعب عن طريق دروة وجيبوتي ثم عدن التي مكث فيها قرابة الشهر.

في الراهدة وهي منطقة حدودية بين اليمنين قبل الوحدة، تسلم أمواله التي حولها معه عن طريق الإنجليز الذين كانوا في عدن وبمعرفة بعض الحضرميين، ثم سافر إلى تعز حيث التقى حاكم اليمن الإمام أحمد في قصره وأكرمه بمبلغ مائتي ريال فرنسي نال نصفها من أوصله إلى الإمام، وسمح له بالمرور إلى جيزان ترافقه زوجته.

وعلى الحدود السعودية كفله أحد أقاربه ليدخل إلى البلاد ثم استخرج بطاقة أحوال سعودية ثم سافر للظهران وعمل في أرامكو السعودية وأرسل إلى الربع الخالي لكنه رفض وعاد إلى مكة المكرمة واشتغل بالخياطة، ثم تحول للعمل بالترجمة للإيطالية في شركة بن لادن حتى توفي بن لادن وهو المؤسس الكبير للشركة، وعاد في آخر مطافه إلى مسقط رأسه واشتغل كمعرف لقريته «الدارين» وطالب بفتح مدرسة للبنات وظل يعمل بها حتى تاريخه ولا يزال يتمتع بصحة جيدة وذاكرة متقدة.