إعادة افتتاح أقدم مقهى ثقافي في بغداد.. والرواد يصفونه بأنه بيتهم الثاني

بعد أن فقد 5 من أبنائه في حادث تفجير الشابندر.. صاحب المقهى يعيد فتحه إخلاصا للتاريخ ولذكرى الضحايا

لقطة عامة لمقهى الشابندر (أ ف ب)
TT

كان كل شيء طبيعيا وهادئا في شارع المتنبي، حيث افترش العشرات من باعة الكتب أرصفة هذا الشارع الذي يمتد تاريخه إلى العصر العباسي باعتباره امتدادا للشارع الذي تقع فيه المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله قبل ألف عام، مرورا بسوق السراي المختص ببيع القرطاسية والورق ومحلات تجليد الكتب، فجأة ، ومثلما يحدث في الأوقات البغدادية العصيبة انفجرت يوم الخامس من مارس (آذار) 2007 سيارة مفخخة كانت مركونة وسط شارع المتنبي، ومع الانفجار احترق كل شيء، مما أدى إلى مقتل العشرات من الأبرياء، وتدمير أشهر مكتبات بغداد الشهيرة مثل، مكتبة المثنى والنهضة والمتنبي، والمطابع التي كانت تعتني بصناعة الكتاب العراقي، وسوق الآلوسي الذي يضم العشرات من محلات صياغة الذهب، و أخيرا مقهى الشابندر الذي يقترب عمره من قرن.

حدث ذلك قبل عامين، وراح ضحية هذا التفجير إضافة إلى أكثر من مائة من رواد الشارع المزدحم بباعة الكتب، خمسة من أبناء محمد الخشالي، (77 عاما)، صاحب المقهى وعثر عليهم بين الركام وتحت الأنقاض، وأدى هذا الحادث المروع إلى فقدان والدتهم بصرها إثر الصدمة ثم فارقت الحياة بعد عدة أشهر.

الموقعان الجغرافي والتاريخي لهذا المقهى يؤهلانه لأن يكون شاهدا على الزمن العراقي اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. فمقهى الشابندر يقع عند الركن المقابل لسوق السراي، وفي ملتقى شارع السراي الذي كان يضم السراي الحكومي العثماني، مع شارع المتنبي. والجدير بالذكر أن السراي بقي مقرا للحكومة العراقية منذ أن تم تتويج أول ملوك العراق فيصل الأول عام 1921 في مبنى القشلة بالسراي، على بعد أمتار من مقهى الشابندر.

هذا من الناحية الجغرافية، أما تاريخيا فإن رجالات الحكومة والتجار والأدباء كانوا يتخذون من الشابندر محطة استراحة لهم حيث نقاشاتهم السياسية والأدبية، وحيث يعقد الكثير من التجار صفقاتهم المالية.

المقهى الذي احترقت معظم أجزاؤه بسبب التفجير الإجرامي، أعيد يوم أمس افتتاحه بعد أن تم إعماره بالأسلوب البغدادي الذي حافظ على جماليات المقهى التراثية، وكان إعمار شارع المتنبي والمقهى تم بمبادرة وإشراف الدكتور برهم صالح نائب رئيس الحكومة العراقية الذي يتكرر ذكره (صالح) على السنة أصحاب المحلات والمكتبات والمطابع باعتباره صاحب مبادرة إعادة الحياة للشارع التراثي كلما تمر بشارع المتنبي.

مقهى الشابندر الثقافي الشهير فتح أبوابه مجددا أمام المثقفين والأدباء العراقيين بعد ترميمه وإزالة آثار الدمار، ويقول الخشالي، صاحب المقهى لوكالة «الصحافة الفرنسية»، إن «الرغبة الشديدة في إبقاء المقهى كمركز جذب ثقافي والمحافظة على معالمه وهويته الثقافيتين منذ أكثر من 80 عاما دفعتني للتغلب على المصاعب التي واجهتني بعد حادث التفجير الذي دفعت ثمنه خمسة من أبنائي».

ويضيف الخشالي «كنت أريد ألا يتأثر المقهى بمأساة أبنائي الخمسة الذين قضوا في هذا الحادث وأن لا تؤثر الحادثة على مكانة المقهى وتاريخه فكظمت غيظي وصبرت ونجحت في إعادة الحياة إليه وهو يذكرني يوميا بأبنائي الخمسة».

ويعود مقهى الشابندر إلى عام 1917 وكان قبل ذلك مطبعة أسسها موسى الشابندر وهو من أحد رجالات السياسة المعروفين في تلك الحقبة واضطر لإقفال المطبعة نتيجة مواقفه السياسية بعد دخول البريطانيين العاصمة بغداد عام 1917.

وتعني كلمة الشابندر الذي عرف به المقهى القنصلية باللغة العثمانية.

ويرى الخشالي أن «الموقع الجغرافي الذي يتمتع به المقهى لقربه من مقر الحكومة آنذاك ثم وجود مجلس البرلمان في العهد الملكي ومقر خمس وزارات عراقية منها العدلية والمعارف، كان عاملا هاما في شهرة المقهى».

ويجلس الخشالي خلف منضدة صغيرة مصنوعة من الخشب بطريقة تراثية وإلى جانبه علقت صور أبنائه الخمسة الذين قضوا بالتفجير.

وإذا كانت بعض المظاهر الاجتماعية قد انحسرت ببغداد نتيجة التقدم الحضاري، أو الأحداث التي عاشها العراق، فإن ظاهرة المقهى باعتباره فعالية اجتماعية أصيلة لم تختف من الواجهة العراقية عامة ومن بغداد خاصة، حيث اشتهرت مقاهي بغداد الثقافية والاجتماعية، مثل، مقهى الزهاوي ومقهى حسن عجمي الآيل للسقوط والذي ينتظر أن تمتد إليه يد الإعمار، ويعد مقهى حسن عجمي واحدا من أشهر المقاهي الثقافية ببغداد على الإطلاق، ثم المقهى البرازيلي ومقهى البلدية، ومقهى أم كلثوم، ومقهى الخفافين، ومقهى التجار، ومقهى البرلمان ومقهى الرصافي، ومن بين هذا العدد من المقاهي لم يتبق سوى مقاهي، حسن عجمي والشابندر والزهاوي.

وبينما يجاهد مقهى حسن عجمي من أجل بقائه كعلامة هامة من التاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي البغدادي، فإن مقهى الشابندر ازدهر باعتباره مقرا للمثقفين العراقيين.وفي صباح كل يوم جمعة تزدحم مقاعد هذا المقهى بالكتاب والشعراء والفنانين، إذ يزدهر في العطلة الأسبوعية شارع المتنبي ويزدحم بالباعة حتى إنه بإمكانك أن تجد أي كتاب تبحث عنه في يوم الجمعة.

وإذا أردت لقاء أي مثقف عراقي وبلا موعد مسبق فما عليك إلا أن تذهب صباح يوم الجمعة إلى مقهى الشابندر، هناك سوف تستقبلك رائحة دخان الأراجيل (جمع أرجيلة)، والأصوات المختلطة والمتداخلة حيث هذا يثني على قصيدة نشرت في تلك الصحيفة، وذاك يهاجم مقالة نالت من قصته نقديا، وهكذا.

يقول الأديب المعروف الدكتور مالك المطلبي لـ«الشرق الأوسط»، إن «هذا المقهى ملتقانا الثقافي والاجتماعي، هنا نلتقي جمهرة من المثقفين والمتلقين في آن واحد، إذ إن صعوبة التنقل والمشاغل اليومية باعدت كثيرا بين الأصدقاء، لكنه شبه موعد مؤكد هو أن تلتقي أصدقاءك هنا يوم الجمعة، والجميع يقطعون المسافات من أجل هذا اللقاء». ويقول الكاتب والناقد العراقي كمال لطيف سالم ،61 عاما، إن «مقهى الشابندر هو بيتنا الثقافي وبيتنا الثاني نؤوي إليه لنستعيد الذكريات الجميلة والحزينة عبر أكثر من ربع قرن أمضيتها في هذا المكان».

ويضيف سالم الذي يعد من أبرز رواد المقهى وهو جالس على إحدى الأرائك الخشبية التي اعتادت عليها المقاهي القديمة في بغداد «بقدر ما نستذكر أياما ممتعة نأسف اليوم على غياب تلك الأسماء التي منحت المقهى شهرة ثقافية».

ويذكر شمس الزهاوي أحد رواد المقهى منذ أكثر من ثلاثين عاما «قرب بيتي من المقهى شجعني على أن أتردد يوميا هنا من دون انقطاع خصوصا بعد تقاعدي من العمل ولحسن حظي كنت في اليوم الذي تعرض فيه المقهى إلى التفجير في إحدى دوائر التقاعد لانجاز أمر ما».

ويضيف الزهاوي، (70 عاما)، «في ذلك اليوم انهالت علي المكالمات بعد أن توقع الجميع بأني ذهبت ضحية التفجير لكوني أجلس هنا بشكل منتظم يوميا ومنذ الصباح حتى ساعات متأخرة واليوم عادت رحلتي مجددا مع المقهى بإعادة إعمارها وافتتاحها».