زينب السجيني في أحدث معارضها: أختبئ في لوحاتي من شرور العالم وآثامه

معزوفة لونية تطل من شرفات الأمومة والطفولة

من معرض الفنانة زينب السجيني («الشرق الأوسط»)
TT

عندما تدخل معرض زينب السجيني الأخير بقاعة الزمالك للفن تنفصل تماماً عن العالم الخارجي بشروره وأخباره السيئة، لتدخل عالماً من الدفء والبهجة والبراءة. يقابلك عند دخولك لوحة بها تيمة أثيرة لدى الفنانة ألا وهي السمكة تحملها إحدى النساء فوق رأسها وبين يديها سلة مملوءة بالأسماك. وتأتي نظرات الأسماك في لوحاتها عموماً إما مستسلمة لقدرها، وإما مترقبة لما يحدث. والفتاة في هذه اللوحة سمراء بملامحها مسحة أفريقية ترتدي فستاناً أصفر مشرقاً يُحدث تبايناً بينه وبين لون بشرتها الأسمر، ورغم سمرتها جاءت عيناها زرقاوين وكأنهما ماء النيل يشق طميه.

الطفولة والأمومة والبيت.. عالم زينب السجيني الذي تتجول دوماً في أرجائه، ورغم ذلك لا تشعر أبداً بالملل، بل كل الأعمال نجحت في خلق بصمة وأسلوب مميز.. حتى يمكنك أن تقول إن هذه اللوحة لها من دون أن تقرأ الاسم.

وفي معرضها الذي حمل عنوان «مشاهد من حياتنا» جددت السجيني من تقنية عملها كثيراً وهذا ما أكدته بنفسها: «مع احتفاظي بأسلوبي القديم إلا أنني في هذا المعرض كنت أحاول أن أخرج عن التقنيات التي أستخدمها وأجدد في تحد للذات».

النساء دوماً هن الشخصيات والبطلات في لوحات الفنانة ولم يشذ المعرض الأخير عن هذا أيضاً.. نساء حالمات بريئات أمهات بامتياز. في إحدى اللوحات التي تنقل لمن يراها حالة من السكينة والراحة جاءت بها ثلاث طفلات على خلفية بيضاء وملابسهن مشرّبة بالبياض أيضا تحمل كل واحدة منهن حمامة مستكينة لصاحبتها، وتبدو الفتيات مرتاحات تماما بعد إرهاق وتعب شديد، كما أن إحداهن تتفتح في فستانها طاقة ضوء تجلس فيها فتاة أمام بيتها بسلام، وخلفهن توجد شجرة بها بيضات تفقس حماما جديدا.

أعمال زينب السجيني بها رمزية بالتأكيد لكنها الرمزية الشعرية، نعم فهي بدون أن تقصد ذلك تقول شعراً بفرشاتها وألوانها وعندما سألتها عن هذه الشعرية قالت: «كل ما أفعله أني أعيش الموضوع جيدا، وربما عاشت معي فكرة عشرة أو خمسة عشر عاماً حتى تنضج وتخرج بعد ذلك.. هكذا أنا، لكني أشعر أني أختبئ من العالم وشروره وآثامه في لوحاتي فالفن ملاذي وملجأي وشغفي».

تحفل لوحات المعرض بحس مصري شعبي برائحة فرعونية وإفريقية، وهو ما تؤكده السجيني بقولها: «طبعا نحن جزء من أفريقيا لكن الموضوع ببساطة أن معي الآن في المنزل نساء أفريقيات لخدمتي ومساعدتي، وبالتأكيد تأثرت بهن جدا وخرج هذا في اللوحات».

لا تخفي عباءة الثمانين براءة وطفولة وجه زينب السجيني، وهو ما تجسده عوالم لوحاتها الممتلئة لهواً ومرحاً وطفولة، حتى يبدو أنها لم تبرح هذا العالم، فما زالت الطفلة بداخلها، ومازالت تلهو معها بالعروسة القماش والألعاب الأخرى الشعبية.

تقول السجيني «أشعر دائما أن بداخلي طفلة أتأملها كثيراً وأحافظ عليها، فأنا لم أدخل في صراع طوال حياتي حتى لو تم ظلمي، قد أحزن لكني أترك الأمر بيد الله سبحانه وتعالى، ثم أبحث عن الأشياء الإيجابية الأخرى في حياتي لأني لو كنت استسلمت للظلم والأحزان كنت هجرت الفن منذ زمن بعيد. وأكثر ما آلمني حرماني من دراستي بالخارج وقد كان حلمي منذ طفولتي لكني أكملت الطريق ونلت الماجستير والدكتوراه وواصلت العمل».

وحين سألتها، ربما هذا أفضل في الحفاظ على أسلوبك المصري الشعبي. ردت بابتسامة حانية : «لا أظن، كما تعلمين فقد نشأت في بيت السجيني وعمي الفنان جمال السجيني كانت له مكتبة فنية كبيرة وكانت أفضل هواياتي وأنا طفلة صغيرة أني كنت أستأذن عمي كل أجازة لأرتب له المكتبة، ولم أكن أفعل ذلك إلا لإخراج الكتب والفرجة عليها ثم إعادتها مرة أخرى، فالفرجة على كتب الفن التشكيلي كانت شغفي وأنا صغيرة وأتاح لي ذلك مشاهدة أعمال كبار الفنانين في العالم سواء كان ذلك في النحت أو في التصوير، وقد أسهم ذلك كثيراً في تنمية ذائقتي البصرية وبعد ذلك تعمقت في دراستي وتعرفت على الفنانين من العالم والتقرب من فنونهم سواء بمشاهدة أعمالهم أو من خلال المعارض والمتاحف بالخارج، ورغم ذلك حافظت منذ البداية على المصرية التي عايشتها والمفردات الحياتية التي نقطنها وتقطننا وحاولت حفر أسلوب مميز يخصني. التصوير عندي حتى الآن هواية، أما تخصصي الأساسي فهو التصميم والإعلان حتى في بداياتي عندما كنت أمارس التصميم كنت أحاول جعل ما أقوم بتصميمه متميزاً بأسلوب يخصني».

> لكن لماذا لا يوجد رجل واحد في لوحاتك ويقتصر عالمكِ على النساء؟

ـ لا أختار ذلك بل أجدني أفعله بعفوية، ربما لأن المرأة عالمها أرحب وبه قدرة تعبيرية أكثر، فأستطيع اللهو مع شعرها وفساتينها، أما الرجل فصعب بعض الشيء. أنا لا أكره الرجل ولم أعش صراعات في حياتي، فمنذ طفولتي كنا نعيش كعائلة في بيت واحد ولم يكن هناك منازعات، بل مضت حياتي هادئة، كل منا يتنازل عن شيء للآخر، وبعد ذلك تزوجت من رجل طيب هو الفنان الكبير عبد الرحمن النشار، أكرمني وشجعني علي هوايتي كثيراً، وأكمل معي الرحلة بهدوء، لكن هكذا أجدني أرسم النساء فقط.

هذه الحالة من الأمومة الصافية والتناغم الداخلي تنعكس بقوة في لوحات المعرض، فثمة مناجاة لرموز من كائنات حية، مسالمة، شاخصة بأعينها إلينا، وكأنها ترديد نغمي لروح الفنانة نفسها.. حمامة تنظر إلينا بوداعة وهي تقف على كتف فتاة لا نرى إلا جانب وجهها، يلف رأسها إيشارب برتقالي اللون كأنه الشمس، أما رداؤها فهو أخضر ناصع كغصن الزيتون..وفي إحدى اللوحات يطل مفتاح الحياة الفرعوني متكرراً بحس شعبي ليصنع جدار شرفة تستند عليها فتيات مصريات بملامح أفريقية وبين أيديهن وفوقهن وتحتهن حمامات ترف ببراءة وطفولة، فتبدو الشرفة وكأنها هيكل أحد أبواب بيوتنا الريفية القديمة.