المهنة: مريض مزمن

تحولت إلى تجارة مشروعة تحت سقف مملكة الرحمة

المرض مهنة لها سماسرة ومقابل مادي («الشرق الأوسط»)
TT

«المهنة مريض».. عبارة موجعة ومخيفة، والأكثر إيلاما أن تتحول إلى مصدر رزق، ووسيلة وحيدة يلجأ إليها العشرات من أصحاب الأمراض المزمنة والعاهات، لتسول الحياة من خلال طلبة كليات الطب، وتضطرهم لتحمل أصابع الطلبة وهي تعبث بأعضائهم وآلامهم، لتعلم فنون الداء والدواء، والحصول على شهادة تقول.. «المهنة طبيب».

بضعة جنيهات لقاء أن تكشف امرأة مصابة بربو مزمن صدرها، أو يتعرى طفل، مصاب بعيب خلقي (ثقب في القلب) من سنواته الأولى، لقاء ثمن علبة بسكويت أو قطعة شوكولاته، أو يقيس كهل في السبعين ما تبقي في جيبه أو عمره، بنسب التضخم في الكبد والطحال.

سيناريوهات حزينة يكتبها يوميا أكثر من 10 آلاف مريض، بينهم مئات الأطفال في مصر، يتم تنظيمهم وتوزيعهم بين المحاضرات والدروس والامتحانات بواسطة أكثر من 20 سمسارا من محافظات مختلفة.. والمدهش أنها أصبحت مهنة تحكمها قواعد وأصول. فلا يجرؤ أي سمسار أن يستعين بمريض تابع لسمسار آخر، وكل سمسار بدوره يحافظ لمريضه على فرص دورية للعمل، وتصبح المهنة مربحة في ظل تزايد أعداد المرضى، واتساع رقعة الفقر والإهمال.

أحد هذه السيناريوهات يطالعك بقوة في ملامح وجه سليمان – أشهر سمسار مرضى في مصر– ففي معيته أكثر من 600 مريض.. عندما اقتربت منه لم أتوقع نظرا لشهرته أن يكون شابا لم يتعد الثلاثين.. كما لم أتوقع أن يكون هو نفسه مقعدا على كرسي متحرك يدفعه شاب في العشرين.

على وجه سليمان ارتسمت معالم الضيق ممزوجا بالسخط على الحياة. لكن لا داعي للعجب من حداثة سنه، فهو يعمل بتلك المهنة منذ 15 عاما، حينما جاء يبحث عن علاج لمرض ضمور العضلات الذي أصابه وهو في الثانية عشرة، وتم حجزه في مستشفى قصر العيني لأكثر من 3 سنوات، تعرف خلالها جيدا على المرضى والأطباء، وأصبح مسؤولا عن التنسيق بينهم.

يقول سليمان «أنا مريض بشلل في الأطراف الأربعة، ولو تركتني زوجتي فلن أجد من يساعدني، وقد استأجرت هذا الشاب بـ300 جنيه في الشهر كي أستطيع الحركة».

ومع هذا، لا يمكن الاستهانة بما يكسبه سليمان، فهو يقتسم الربح مع مرضاه الستمائة.. لكنه لا يعتبر حاجته الشخصية للمال هي دافعه الوحيد. «فاحتياج هؤلاء المرضى لأي قرش هو ما يجعلني أتحمل آلام إهاناتهم.. أنا أعتبرهم رجالي وأحزن لأي أذى يصيبهم، لكني أضطر للصبر في مهنة لا يمكنك تخيل حجم المعاناة التي تسببها.. كثير منهم يموت بسبب إهمال العلاج.. والباقون يتعرضون لشتى أنواع المضايقات، وأذكر مريضا منهم فوجئ بالطالب يركل سريره بقدمه في عصبية، وعندما سأله المريض لماذا تعاملني بهذه الطريقة؟ أجابه الطالب أنا أدفع لك كي أتعلم».

سليمان يرفض العمل مع الأطفال.. ويقول إنه لا يعذر الأم ولا الطبيب، لأن البالغ يمكنه أن يتحمل الآلام الجسدية والنفسية، من أكثر من مائة يد تفحصه، لكن الطفل أو الصبي الصغير لن يتحمل.

وبأسى يوضح سليمان أن من مصلحة أساتذة الدروس الخصوصية أن تستمر هذه التجارة، لأنهم يكسبون آلاف الجنيهات يوميا بهذه الطريقة ويهمهم ألا يتغير شيء.

أما عمار – مريض بروماتيزم في القلب –فاختصر حجم معاناته في هذا المشهد: «عندما أنام بجوار زوجتي ليلا يفزعني أن تلمس يدها بالخطأ بطني أو صدري.. ساعتها أنتفض بعنف وأبعدها بكل غلظة ممكنة.. فما لا أستطيع أن أفعله مع الطلبة من أجل لقمة العيش أفعله مع زوجتي». يمشي عمار على عكاز لأنه يعاني من ارتجاع في الصمام المترالي تسبب في شلل نصفه الأيسر.. ويقول متأسيا «في أحد الأيام بعد أن خلعت قميصي وتأهبت لبدء الدرس قالت لي طالبة وهي تنظر لجسدي: ألا تخجل من نفسك؟.. وقتها ذهبت للحمام وظللت أبكي، وقررت ألا أعود لهذه المهنة.. لكن الحاجة أعادتني».

سيناريو آخر يرويه أحمد نبيل – نائب بقسم العظام بطب قصر العيني – يقول: «أشعر بكثير من التعاطف مع تلك الحالات.. لأن الفقر هو ما يحركهم، وهم يبدأون بسطاء محتاجين ثم بالتدريج يتحولون إلى محترفين.. هذا بالإضافة إلى أنهم يعانون الأمرين في رحلة بحثهم عن الرزق، ففي إحدى المرات ظل الطلبة يطلبون من مريض غدة درقية أن يبلع ريقه، حتى أصبح غير قادر على التنفس وأصبحت عملية البلع بالنسبة له عملية مؤلمة جدا».. لكن الحقيقة الموجعة التي يؤكدها نبيل، أنه في النهاية يتم التعامل مع هؤلاء البشر كموديل لا ذاتية لهم، يتعلم منهم الطلبة ما يريدون، ويزداد الأمر سوءا حين يصعب الوصول لبديل مناسب.

أما محمد جاد – نائب بقسم الباطنة بقصر العيني – فيعتبر أن تلك الممارسات ضد آدمية الأطباء أنفسهم، وتنسف الهدف من التعليم وهو علاج المريض ووقف معاناته والتفاعل الرحيم معه حتى يصل للشفاء.. مؤكدا أن هذه الطريقة تعارض كل هذا وتحول مهنة الرحمة إلى تجارة وربح مادي فقط. ملمح آخر من هذا المشهد تعبر عنه «إيناس» – طالبه في الفرقة السادسة بطب قصر العيني – التي تؤكد أنها لن تنسى حالة فتاة لديها 25 عاما كانت مصابة بسرطان الصدر، وكانت تحضر الدرس لأول مرة.. وعندما كشف الطبيب عن صدرها أمام الطلبة انهارت وبكت.. بعدها سألت إيناس الأطباء عن آدمية ذلك الفعل فأجابوها أنها مشكلة المرضى أنفسهم لأنهم يرفضون العلاج.. إيناس أنهت كلامها بأنها تشعر بالحزن دائما وهي تشاهد هؤلاء المتاجرين بجراحهم، وأنها لا تقبل بالتأكيد أن يكون أباها أو أمها في هذا الوضع، لكنها تتساءل ما البديل؟

عم عبد الشافي ( 58 عاما) من أحد نجوع مركز طهطا، بمحافظة سوهاج في الجنوب، يقطع أكثر من 500 كيلومتر من أجل تلك المهنة.

يتذكر عم عبد الشافي زيارته الأولى للقاهرة. كالعادة بهره النور والمعمار الذي يختلف تماما عن نجعه المختبئ في ظلام الصعيد. وتذكر حينما كان يعمل فلاحا «بالأجرة»، يضرب الفأس في الأرض فتنشق نصفين. حتى جاء اليوم المشؤوم الذي أصيب فيه بنزلة شعبية تدهورت معها صحته، واختلت بسببها أحواله المعيشية كرجل يعتمد في عمله على «عافيته».. دار على الوحدات الصحية في القرى المجاورة يلتمس الدواء، لكن دون جدوى. حاول أن يمسك بالفأس أكثر من مرة فلم يستطع. لحظتها قرر أنه سيعلم ابنه في المدارس – على غير العادة بين زملائه من العاملين بالأجر – حتى لا يجعله فريسة للجهل والفقر في اللحظة التي تتخلى عنه فيها صحته. تذكر الرجل ببعض الألم كيف أن مئات الأيدي من طلبة في سن ابنه كانت تمتد إلى بطنه و«تخبط» عليها بآلية تامة وكأنه جماد. وتذكر حين كان أكثر من مائة طالب يلحون عليه بشكل متواصل أن «يكح» حتى يسمع كل منهم صوت تنفسه. «كح» «كح» «كح».. هذه الصورة لا تفارق مخيلته وهو يقطع أشواط حياته القاسية في تلك المهنة.

ولكن المتاجرة بالأمراض المزمنة مهنة كأي مهنة أخرى بها الصالح والطالح.. فبعض المرضى مثلا قد يتسببون عمدا في رسوب الطالب إذا لم يعطهم المقابل المناسب. فعندما يسأله الطالب عن حالته وقت الامتحان لا يرد أو يرد بإجابات مضللة. أما إذا ما دفع له جيدا فسوف يغشش الطالب المرض والعلاج معا، فهؤلاء المرضى قد حفظوا كل ما يتعلق بمرضهم حتى باللغة الإنجليزية مثل أستاذ الجامعة. وبعض المرضى ممن لديهم التهابات في الجهاز التنفسي يسرفون في تدخين السجائر والشيشة قبل الامتحان حتى تظهر أعراض الحالة جيدا! كل هذا يتوقف على كم ستدفع، فإذا ما كنت كريما فقد يغششك المريض الـSheet كله.

عم عبد الشافي يقول إنه ليس مثل هؤلاء «فأحيانا أساعد طالبا دون مقابل إن وجدته فقيرا».. بل إنه يذكر مريضا بشلل نصفي رفض أن يساعد فتاة لأنها لم تعطه شيئا.. وعندما جلست الفتاة تبكي داخل الامتحان تمنى لحظتها لو أنه مصاب بالشلل النصفي حتى يستطيع أن يساعدها.. لكنه للأسف مريض بالصدر فقط!! عم عبد الشافي لم تلوثه المهنة، ولم يفقده الاستهانة بجسده كل آدميته.. وربما لذلك لا يستخدم غير الطرق الشرعية في مهنته غير شرعية.. لكن للضرورة أحكام، وأمراض أيضا!