القاهرة تعزف على أوتار الروح.. في «بيت العود» العربي

حَوَّل العازفين إلى نجوم ويعبر بالمواهب حدود الأوطان

نصير شمة خلال احدى الامسيات
TT

في محرابه بـ «بيت الهراوي» التاريخي يقبع نصير شمة على عوده، وحوله مريدوه، يتسامى بمشاعرهم ويحلق معهم كدرويش من المولوية، تشق أنغامه غبار سماء القاهرة؛ فتمنح أجواءها بعضا من السكينة، وترمم تجاعيدها، وتعود بروحها صبية نضرة.

بدأت مناجاة نصير شمة لآلة العود وهو طفل عمره ست سنوات في شوارع مدينته الكوت بجنوب العراق، قصة حبهما بدأت بأحلام اليقظة، ويزداد توهجها بمرور الزمن. هناك تعلم العزف بمعهد الموسيقى، ثم لمعت موهبته وظهرت عبقريته للدرجة التي غيَّر فيها من ملامح محبوبته؛ فقَصَّر من يدها لتكون 19 سم، بدلا من 21، كما زاد أوتارها إلى ستة؛ لتتمكن من الشدو بكل اللغات.

ولظروف عديدة، خرج من العراق بعد ذيوع شهرته عام 1993، وبعدها بخمس سنوات فكَّر في تأسيس أول بيت للعود بمدينة لندن، لكن رتيبة الحفني أستاذة الموسيقى المرموقة نصحته بتأسيسه في القاهرة، حتى لا يصبح كالجسم الغريب خارج بيئته الطبيعية، فاستجاب نصير، وتأسس البيت في «دار الأوبرا المصرية» بعد ستة أيام فقط من طرح الفكرة، ثم انتقل سريعا مع تلاميذه إلى «بيت الهراوي» الذي تأسس عام 1631 م، وهناك تحول المكان إلى منارة؛ وازداد المريدون من أربعة طلاب إلى مائة طالب، كما ازدادت الفروع؛ فتم تأسيس فرع في مدينة قسنطينة بالجزائر عام 2004، وآخر في أبوظبي، ومن المنتظر افتتاح فروع أخرى في قطر والخرطوم وتونس.

نصير هو حفيد ابن سريج والموصلي ومنصور زلزل، هو (ذرياب) العرب المعاصر وشيخ العوادين، مَنْ تمكَّن مِنْ تحويل هذا البيت القديم إلى مؤسسة للعلم، وأرشفة تاريخ الموسيقى، وصناعة للعود، كما حوله إلى بيت للتربية والأخلاق. يقول «يأتيني أحيانا أطفال وشباب على وشك الضياع، ويعترض الزملاء على وجودهم، وما هي إلا شهور معدودة ويتحولون إلى فنانين حقيقيين، مرهفي الحس، يتمتعون بدماثة الخلق. يأتي ذَوُوهُم يبحثون عن سر التحول؛ وإجابتي واحدة: «إنها الموسيقى»».

يشبه «بيت الهراوي» في كلاسيكيته آلة العود، التي يعود تاريخ اختراعها إلى عام 2350 قبل الميلاد. واختاره شمه كمقر لأسباب أخرى أيضا، منها سهولة الوصول إليه، بالمقارنة ببقية بيوت القاهرة التاريخية، وكذلك اتساع قاعاته وتعددها، مع رغبته في تحويل الأماكن التاريخية إلى بيوت للإشعاع الثقافي والفني؛ لتنطق بالحياة ولا تقتصر مهمتها على إسعاد السائحين فقط.

بمرور الوقت، تحول البيت العتيق إلى مركز للموسيقى يعج بالمريدين والذواقة وطلاب العلم. مينا نبيل واحد من مريدي النغم، يعمل مهندسا للقوى، ومنذ طفولته تعلم العزف على البيانو، لكن حنينه إلى الشجن الشرقي دفعه إلى بيت العود، دون أن يلم بأي من أبجديات العزف. شفع له شوقه للتعلم؛ فتم قبوله بعد مقابلة شخصية مع نصير شمة. قبع تلميذا يتكئ على أبجديات السلم الموسيقى، كطفل يجرب صعود المشي على سطور الألحان. يقول مينا «لم أكن أتوقع قبولي بتلك السرعة، خاصة دون تعلم أساسيات العزف. وجدت صعوبة مع اتساع وثراء المقامات العربية، لكن حبي للمكان وعبق الأجواء ساعدني على تجاوز تلك الصعوبات، فرغم مرور ثلاثة أشهر فقط على حضوري، وجدت الطريقة الأنسب لتكوين مشاعري في نوتة موسيقية».

إذا كان عشق العود دفع مينا إلى هجر البيانو والهروب من صخب هندسة القوى، فإنه كان لـ «تيودور بشري» بمثابة «الندَّاهة» التي كتب عنها قبل ذلك يوسف إدريس، وسجلتها كاميرات السينما في عمل بديع لماجدة وشكري سرحان، فبعد أربع سنوات قضاها في مهجره بكندا كصيدلي باحث عن العلم والثروة، كان العود سببا مباشرا في عودته إلى وطنه، فعقب أيام الراحة، توجه مباشرة إلى «بيت الهراوي»، ومنذ ثلاثة أشهر يحتضن عوده، وينتقل بين قاعات الدرس، يسمع محاضرات تاريخ الموسيقى ونظرياتها، ثم يطبق ما تعلمه في حصص عملية لثلاث مرات أسبوعياً، يبث مشاعره ويتوحد مع أوتاره. قد يرى البعض في ما فعله «تيودور» نوعا من الجنون، لكن ابتسامة السعادة وتوحده مع أوتار عوده، وهي تشدو بمقطوعة على حافة الألم كفيلة بتفسير جزء من ملامح قراره الغامض، ثم لا يلبث أن يبدد الغموض حول تضحيته بالثروة والرخاء في المهجر بقوله «الفن ليس له حسابات، والعائد المؤكد مما فعلته هو سعادتي».

بين جنبات «بيت الهراوي» ينتظم أكثر من مائة طالب، هناك يدرسون العود وإخوته من الآلات الوترية الشرقية، كالقانون والبزق، إضافة إلى دراسة الناي، ينتمون إلى بلدان مختلفة.. فهناك قد تصادف عراقيا ومصريا، شابا وشيخا.. الجميع يقدمون قرابين استماعهم للفن ومبادئه احتراما وقداسة، نساء ورجال، شباب وعجائز، مَنْ يأتي من سيناء قاطعا مئات الكيلومترات أسبوعيا ثلاث مرات لتلقِّي العلم، وجوه سمراء من الصعيد، وأخرى ترتسم على أعينها ابتسامات بحر الإسكندرية، ينتظم الجميع لعامين كاملين بين قاعات الدرس، يتشابكون مع الأنغام، حتى يتحول الاشتباك إلى صداقة، والصداقة إلى وجد، والوجد إلى موهبة مروّضة تنتشي بمناجاتها أذن السامعين.

محمد أبو ذكري (16 عامًا) واحد من أصحاب المواهب المخيفة. دخل التاريخ كأصغر أستاذ لآلة العود في العالم، وعمره بعد 13 عامًا، طفل في نظر البعض، لكنه أستاذ كبير في أعين ذواقة النغم. بدأت حكايته مع العود وهو في الثامنة كمستمع لعزف عمه الهاوي في جلسة أسبوعية للعائلة. تعلَّق بهذا الصندوق السحري ذي اليد الملساء والأوتار الصادحة؛ فقرر والده أن يستغل الفرصة؛ واستعان بمدرس للموسيقى علّمه أبجديات العزف، ثم انطلق بصحبته بعد شهر واحد إلى «بيت الهراوي»، وهناك ظل لسنتين تدفعه موهبته إلى آفاق أذهلت أساتذته، حتى تخرج أستاذا يدرِّس للكبار وهو بعد طفل. لم يتمكن من دخول موسوعة «جينيس» للأرقام القياسية لأسباب روتينية بحتة لم يتحمس عندها لاستكمال أوراقه، وقرر أن جائزته المباشرة يأخذها من الجمهور والتاريخ، وليس من الأرقام القياسية.

يستعد أبو ذكري الآن للسفر إلى فرنسا لدراسة الموسيقى الغربية، ويحلم أن يصبح مؤلفا موسيقيا مرموقا، فبحسب تعبيره «حَوَّل بيت العود أحلام العازفين من مجرد الوقوف خلف مطرب مشهور إلى التحليق في سماء النجومية وحدهم برفقة آلتهم الأثيرة».

يتخطى بيت العود دور المعهد الدراسي، فشَكَّل قاعدة لانطلاق النجوم، من خلال حفلاته التي باتت مقصدا لدراويش الفن، أو مكافآته المستمرة للمجيدين في صورة ظهور متكرر في الحفلات الكبرى في أرجاء المعمورة. ويكفي أن الفنان محمد أبو ذكري، هذا الصغير، قد دار بعوده يعزف في مهرجانات كبرى، كـ «موازين» في المغرب، و«قرطاج» في تونس، وفي افتتاح المتحف الإسلامي بقطر، وفي أبوظبي والبحرين.

ومثلما يعبر مريدو «بيت العود» بألحانهم حدود الأوطان، فإن أساتذته قادرون على التقاط تلك المواهب من البقاع المختلفة، ما أن تلمع الموهبة في الأفق، حتى تجد من يحتويها ويصقلها وينفض عنها غبارها ليزداد توهجها.

يحكي أشرف عوض (سوداني الجنسية)، ويعمل أستاذا ببيت العود حكايته، فيقول «شاهدني نصير شمة في حفل عيد استقلال السودان. كنت الوحيد بين أساتذة الأوركسترا. قال لي وقتها «أريدك معي في مصر». كنت هاويا، ومستقبلي حددته مسبقا في هندسة الشبكات، لكنني غيرت طريقي بعد مجيئي إلى هنا، وأستعد الآن للإشراف على فرع «بيت العود» في الخرطوم». حالة من السكينة والتصالح مع النفس تصاحب المرء بعد خروجه من «بيت الهراوي»، فدندنات المعلم وطلابه لا تزال تطرب الأذن، وتعزز رغبة داخلية بالعودة مرة أخرى.