تجارة الذهب في البلقان.. تقليد عائلي

البعض يرى أن زمن العز ولى.. والاهتمام باقتناء الذهب والفضة تراجع

الحاج فخر الدين يفحص إحدى القطع الذهبية في محله («الشرق الاوسط»)
TT

استخدامات الذهب للزينة وما شابه ذلك، بدأت تشهد ومنذ عدة سنوات انكماشا كبيرا على المستوى الشعبي، بسبب الأزمات المالية التي تعصف باقتصاديات العالم، ومنه دول البلقان، التي تعيش أزمات مركبة. ولذلك لم تعد صناعة الذهب رمزا للثروة والغنى، وإنما موردا للرزق لتوفير ضروريات الحياة، كما أكد الكثيرون «للشرق الأوسط».

وقال الحاج فخر الدين بايروفيتش، صاحب محل لبيع الذهب «للشرق الأوسط» إنه تعلم الصنعة من أخيه الأكبر الذي قضى في حادث سير قبل عدة سنوات، بينما قتل أخوه الآخر أرسلان في الحرب الأخيرة سنة 1995. وأنه يعمل في مجال صناعة وبيع الذهب وتصليح الحلي والساعات الذهبية وغيرها منذ 1965 في الجبل الأسود. ثم انتقل إلى تشيكوسلوفاكيا، قبل أن تصبحا دولتين، سلوفاكيا والتشيك، وذلك منذ 1992 وحتى 1995. وقال بايروفيتش إنه عاد لوطنه، على الرغم من تحسن وضعه المادي في التشيك لأسباب أسرية تتعلق بتربية الأبناء «لأن العائلة أهم من المال».

وعن صناعة الذهب في الجبل الأسود، قال «صناعة الذهب تعتمد على أسلوبين؛ الصناعي واليدوي، وكل قطعة يتم تصنيعها تمر بالمصنع ومن ثم تخضع للنقوش اليدوية». وعن مكان تصنيع الذهب قال بايروفيتش، إن هناك مصنعا قريبا يديره أحد أساطين الصنعة ويدعى قاسم أغيتش «أما النقوش فنقوم نحن بوضعها يدويا على قطعة الحلي سواء كانت ذهبا أو فضة» وأما المواد الخام فتجلب من إيطاليا وتركيا. وأوضح بايروفيتش أن هناك اهتماما بصناعة الذهب في المنطقة، حيث توجد مدارس لتعلم الصنعة أو الحرفة بطرق علمية ومنهجية. وأشار إلى أنه يمارس مهنته مع زوجته وابنه الذي يعمل أيضا وكيلا لشركة «غولد تايم» السويسرية لصناعة الساعات.

سعيد قريشي، القادم من السعودية، يختلف مع بقية من التقتهم «الشرق الأوسط» وإن وافقهم في كون الطاقة الشرائية للكثير من مواطني المنطقة ضعيفة. وقال قريشي «صناعة الذهب تقليد في عائلتنا، ومجيئي إلى المنطقة بهدف البحث عن آفاق جديدة، وأدركت منذ البداية وجوب التميز حتى أحقق النجاح، وهذا ما حدث».

وتابع «فتحت محلا لبيع الذهب من عيار 18 و22 و24 ولقيت إقبالا كبيرا رغم ارتفاع الأسعار مقارنة بما هو موجود في السوق». وعن أسعار قطع الذهب والجواهر لديه قال «تتراوح بين 1000 و5 آلاف يورو. فهي نوعية جيدة، تهم الطبقة الاجتماعية الميسورة في المجتمع، والتي لم تتأثر كثيرا بالأزمة الاقتصادية، وكانت أرباحي في 2008 أكثر منها في 2007، وهذا هو الفرق بيني وبين بقية محلات بيع الذهب الأخرى». وأشار قريشي إلى أن بعض مقتنياته من هونغ كونغ وبعضها من إيطاليا وألمانيا. و يبيع قريشي «نحو 900 أنصة سنويا، والأنصة تساوي 31،5 غراما. وخلاف ما ذكره آخرون، يشير قريشي إلى أن اقتناء الهدايا مستمر سواء للمناسبات أو للأعراس والزينة. وأكثر المبيعات أيورة وخواتم وحلقات للأذنين وغيرها». ويرى أن تجارة الذهب تزدهر «بعد الحرب كان همّ الناس ترميم منازلهم أو شراء منازل جديدة، ثم شراء سيارة، والآن يبحثون عن التوفير من خلال عدة فعاليات من بينها شراء الذهب» ولذلك يعتزم فتح فرع جديد في أبريل (نيسان) القادم. وتوجد في منطقة البلقان جمعيات لأهل الحرفة، تقوم بمساعدة أهل الصنعة بما يحتاجونه من عمل، بما يشبه العمل التكاملي بين الأعضاء. لكن الجميع يؤكدون أن زمن العز قد ولى، والاهتمام باقتناء الذهب والفضة على المستوى الشعبي قد تراجع إلى مستويات متدنية جدا، «قبل الحرب كان هناك عمل، والمداخيل كانت محترمة، ويوغسلافيا كانت تضم 7 دول مستقلة حاليا، هي الجبل الأسود، وكوسوفو، ومقدونيا، وسلوفينيا، وكرواتيا، والبوسنة، وصربيا.. الأمر متوقف على حجم السوق، وقد ضاق هذا الحجم في ساحتنا بدل أن يتسع، وانعكس ذلك على حركة البيع والشراء».

وقد ساهمت الحرب التي عرفتها المنطقة في تسعينات القرن الماضي في إضعاف الطاقة الشرائية للمواطنين، وزادت الأزمة الاقتصادية من استفحالها. وربما لهذه الأسباب أصبح هناك ميل لاقتناء الفضة بدل الذهب، وإن اتخذ ذلك طابع الموضة «الموضة الآن مع الفضة. الجميع يشتري الفضة حتى النساء، فالفضة رخيصة وفي نفس الوقت موضة» وعلى الرغم من ذلك يرى بايروفيتش أن «تجارة الذهب والفضة لها مستقبل، فقد رافقت الإنسان منذ عرف هذين المعدنين، وسيظل الأمر كذلك في المستقبل».

في محل آخر لبيع الذهب بالعاصمة البوسنية سراييفو، لم يخف صاحب محل بيع الذهب في «شارع الذهب» الواقع بجانب مسجد الغازي خسرف بك، قلقه من قلة الإقبال على شراء الذهب والفضة. وقال عصمت (30 سنة) «لم تتجاوز مبيعاتي لهذا اليوم أكثر من 30 يورو» ووصف فصل الشتاء بأنه فصل الركود على الإطلاق «العمل في الصيف أفضل، حيث يعود المهاجرون من الخارج وتنشط حركة السياحة» وعما إذا كان يأمل في تحسن الوضع مستقبلا قال «الأمل آخر من يموت.. فنحن لا نبيع الذهب والفضة فحسب، بل نصنع الحلي ونقوم بإصلاح القطع المقطوعة، وأسعارنا تنافسية».

وتختلف صناعة وتجارة الذهب في البلقان عن بقية أنواع الصناعة والتجارة الأخرى، إذ تقوم على العمل الجماعي داخل الأسرة، فهي تقاليد أسرية متوارثة. وقالت شهرزاد نوتشي (30 سنة) التي تعمل مع أمها وأختها وزوجها وابنيها في مجال صناعة وتجارة الذهب لـ«للشرق الأوسط»: «لدينا ثلاثة محلات لبيع الحلي من الذهب والفضة، ولكن ما نجنيه لا يتجاوز تحقيق الاكتفاء الذاتي، فنحن نعمل من أجل البقاء على قيد الحياة وليس تكوين ثروة» وتابعت «نحن نعمل حفاظا على التقاليد، ونأمل أن يستمر ذلك في ذريتنا» وأكدت على أن الإقبال على شراء الذهب والفضة تراجع لعدة أسباب «الأزمة الاقتصادية، وازدياد حدة الضرائب على المداخيل وعلى السلع الاستهلاكية وعلى الفواتير وكل شيء تقريبا».