ثاني أقدم أسواق دمشق التاريخية يتجمل

إعادة محلات سوق مدحت باشا الـ900 إلى ما كانت عليه

سوق مدحت باشا قبل وبعد الترميم («الشرق الأوسط»)
TT

أنجزت محافظة مدينة دمشق ومديرية المدينة القديمة أخيرا مشروع ترميم سوق مدحت باشا التاريخي والشارع المستقيم الذي يعود عمره لألفي سنة ويربط ما بين بوابتي الجابية في الغرب وباب شرقي في شرق المدينة القديمة وبطول 1500 متر. يشكل السوق الذي أنشئ قبل 300 عام الجزء الغربي من الشارع المستقيم ويوازي سوق الحميدية الشهير جنوبا ولا يقل عنه شهرة، حيث تخصص منذ إنشائه ببيع الأقمشة والعباءات الدمشقية ومواد العطارة وغيرها. وحول أعمال الترميم التي تمت على السوق التي خلصته من التلوث البيئي الذي كان يعاني منه بسبب السماح للسيارات بالعبور منه رغم أنه من الأسواق المسقوفة بالتوتياء، قال أمجد الرز مدير مدينة دمشق القديمة لـ«الشرق الأوسط» إنه تمت إعادته إلى ما كان عليه عند تأسيسه بدكاكينه وواجهاته وخاناته وغير ذلك.

يقسم السوق إلى قسمين، وهو الطريق المستقيم المبني في القرن الأول الميلادي وأنشأه الإمبراطور الروماني آنذاك، وهو طريق تاريخي وله موقع ديني، ويسلكه الحجاج المسيحيون، ويصل حتى كنيسة حنانيا. وكان قد هرب الرسول بولس إلى باب كيسان وأنزلوه بالقفة، ولذلك فهو طريق مهم من الناحية الدينية أيضا. أما السوق فهو جزء من الطريق المستقيم الذي يمتد من باب الجابية وحتى باب شرقي، وهو مستقيم فعلا ويصل طوله إلى 1590 مترا.

وكان يعتبر المكان السوق المركزي لدمشق، وسبق سوق الحميدية في الإنشاء، وكان هذا الأخير جزءا من شارع النصر الذي يوصل لمعبد حدد. وكان سوق مدحت باشا يدعى سوق جقمق، أو السوق الطويل. تأسس في العهد المملوكي من قبل نائب الشام الأمير سيف الدين جقمق سنة 1419م، وفي عام 1858 تقريبا كان والي دمشق مدحت باشا الذي أمر بحرق البيوت لينشئ السوق، وفي عام 1885 قام الوالي رؤوف باشا بتنظيم السوق وسقفه بالخشب. وفي عام 1911 قام الوالي ناظم باشا بإزالة السقف الخشبي واستبدل به التوتياء والأعمدة الخشبية المقوسة حفاظا عليه من الحريق. ودخلت فيما بعد على السوق تغييرات سنة 1936 من قبل الانتداب الفرنسي، حيث أضافوا إليه نظام الصرف الصحي، وهذا كان آخر شيء يضاف إليه بشكل منظم. وفي عام 1925 احترق قسم من السوق وتحديدا بسبب العدوان الفرنسي آنذاك وشيدت مكانه بنايات سميت بتنظيم سيدي عامود، وبعد ذلك دخلت الخدمات الكهربائية والهاتفية إلى السوق وجميعها كانت بتمديدات هوائية.

السوق مهم جدا ورئيسي ويتفرع منه عدد من الأسواق حيث يدخل منه يمينا إلى أسواق الصوف والسكرية والحبالين، وعلى اليسار هناك سوق البزورية وسوق الخياطين، ولم تجر في السابق أي أعمال ترميمية باستثناء كشف الأقواس الموجودة في محلات التجار.

وقال الرز إن المشكلة الأهم كانت فيه هي المشكلة التي تعاني منها كل دمشق القديمة وأعني بها الصرف الصحي، «وهي مشكلة قديمة استطعنا معالجتها، وكذلك كان هناك تشوه بصري من خلال أعمدة وأشرطة الكهرباء، فالكابلات تجدها في كل مكان في الشارع، وكذلك الشبكات الهاتفية التي تبدو كالعنكبوت، كلها في الشارع وهوائية، وبدأت الدراسة سنة 1998، ولم يكن هناك أحد يريد أن يتدخل لتنفيذ المشروع خوفا من موضوع الآثار، حتى السنتين الأخيرتين عندما تم اتخاذ القرار بالتنفيذ. وبدأنا بالحفر ولكن البداية في البنية التحتية، من الصرف الصحي، ومن ثم الكهرباء والحمد لله نجحنا وبدأنا الحفر بمترين في باب الجابية، ووصلنا إلى أعماق كبيرة جدا في باب شرقي، وأثناء التنفيذ اكتشفنا الأقواس الأثرية وأحجارا أثرية هامة، تم ترميم جميعها، وتمكنا من إعادة ترميم وبناء 81 قوسا أثريا، والمهم أننا انتهينا من كل مشكلات البنية التحتية. وفي موضوع المياه وجدنا عدة أنابيب بأقطار مختلفة وفي مئذنة الشحم فاضت المياه ومع ذلك تمكنا من حل مشكلات المياه».

واجهات الدكاكين في السوق تعود لعام 1870، وأبواب الدكاكين كلها كانت خشبية، ولم تكن معدنية كما هي في العصر الحديث، فقد تم إعادتها إلى شكلها الخشبي، وكان الباب عبارة عن قسمين من الخشب في الخارج والداخل، وفي الوسط تصفيح من الحديد، وأشكال الأبواب جاءت كما هي في العهود القديمة، فمنها كان شكله أمويا أو عباسيا أو أيوبيا أو سلجوقيا، وبالتالي لم تكن الأبواب على نفس الطراز، وكذلك الحال بالنسبة للأقواس التاريخية. وبالنسبة لما يضمه السوق من مبان تاريخية فقد تم أيضا ترميم وتجميل واجهات الخانات والأبواب والأعمدة مثل خان جقمق وغيره، وتم ترميم الأعمدة الخشبية وتم استخدام المواد القديمة كما كانت في السابق. يضم السوق نحو 900 دكان وهي في السوق الطويل أي الشارع المستقيم ومدحت باشا، ومنها 400 محل في الجزء الأول على جانبي السوق، وهي متخصصة بالألبسة التراثية كالعباءات والشماخات، والقسم الثاني متخصص بمواد العطارة والحبوب والزعتر والبهارات والأعشاب الطبية، والقسم الآخر في مئذنة الشحم متخصص بالنحاسيات والطرابيش والحرف الدمشقية اليدوية، وهناك في القسم الرابع محلات الخشبيات وهذه تمتد حتى باب شرقي. لقد بلغت تكلفة المشروع بشكل كامل نحو 400 مليون ليرة سورية (أي ما يعادل 8 ملايين دولار أميركي) وفيما يتعلق باللقى الأثرية التي وجدت تحت الأرض مثل الأعمدة، أخرجت مع تيجانها، وتم عرضها في متحف بالهواء الطلق وفي الحدائق والمنصفات والساحات الموجودة في السوق والشارع المستقيم، واللقى المميزة تم عرضها للجمهور في حديقة القشلة في السوق والشارع التاريخي.

لقد تحول السوق إلى أجمل سوق دمشقي قديم، يقول أمجد الرز، وأصبح ينافس سوق الحميدية، حيث لاحظ الكثير من الزوار والسياح أن أعمال الترميم فيه جاءت أجمل من أعمال ترميم سوق الحميدية التي أجريت قبل سبع سنوات.