عندما كانت أصفهان «نصف العالم»

المتحف البريطاني يقدم إيران «شاه عباس»

زائرة تتأمل مجموعة من الأواني الخزفية في معرض «شاه عباس» (تصوير: حاتم عويضة)
TT

على جدار ضخم في قاعة القراءة بالمتحف البريطاني عرضت صورة أرشيفية لمدينة أصفهان كتب عليها «أصفهان نصف العالم»، اللوحة جزء مهم من معرض «شاه عباس، إعادة بناء إيران»، الذي يحتضنه المتحف حاليا. المعرض يقدم وجها آخر لإيران عن ذلك الذي نراه الآن. فإيران المعزولة عن العالم الآن مختلفة عن تلك التي يصورها المعرض في القرن السابع عشر، وتميزت بالانفتاح على الغرب والعلاقات التجارية مع أوروبا وكانت العاصمة أصفهان في ذلك الوقت تتربع على مفترق طريق التجارة العالمي ما جعلها في نظر الإيرانيين تمثل «نصف العالم».

ويأتي المعرض ضمن سلسلة معارض تتناول الحكم والقوة، بدأت بمعرض «الإمبراطور الأول»، الذي تناول حياة وأعمال الإمبراطور كين شينهوانغ، تبعه معرض تناول حياة الإمبراطور الروماني هادريان.

المعرض الحالي يتناول حياة الشاه وحكمه، الذي امتد ما بين 1587 إلى 1629ويستكشف نجاح الشاه في إرساء حكمه وإقامة العلاقات مع أوروبا والهند ومحاربة العثمانيين والأوزبكيين، كما يستكشف المعرض منجزات الشاه في مجال العمارة.

أول ما يطالع المرء لدى دخوله المتحف البريطاني هو منحوتة ضخمة للفنان الإيراني برويز تانافولي بعنوان «حرف الهاء» وكأنها تحضر الزائر للدخول إلى عالم الفن والثقافة الإيرانية. وإلى جانبها تجلس فرقة موسيقية مكونة من أربعة أشخاص يعزفون على الآلات الشرقية، العود والقانون والدف، موسيقى شرقية خالصة وكأنها تؤكد على هوية المعرضين الضخمين الذين يحتضنهما المتحف حاليا، الأول معرض «بابل» و الآخر «شاه عباس».

يقول نيل مكغروغر مدير المتحف البريطاني خلال مؤتمر صحافي أقيم بمناسبة افتتاح المعرض إن «الشاه عباس هو الرجل الذي غير إيران، لقد منح الإيرانيين الاستقرار والأمن الداخلي وأحدث تغييرات في النظام القضائي وأرسى الهوية الشيعية للدولة».

أما راعية المعرض شيلا كانبي فتقول إن المعرض ينقسم إلى أربعة أقسام كل منها يقدم منجزات الشاه عباس وتأثيره على إيران، المحاور هي أربع مدن إيرانية شهدت نهضة حضارية خلال عهد الشاه، أولها أصفهان عاصمة الملك ثم أردبيل ومشهد وقم. المعروف أن الشاه أعلن أصفهان عاصمة لملكه في عام 1598 وأمر ببناء قصر ملكي له بالإضافة إلى مسجد أطلق عليه اسم والد زوجته ومرشده الروحي الشيخ لطف الله. ضمت أصفهان أيضا مقار للطبقة الحاكمة والتجار الأرمينيين، الذين قام الشاه بتهجيرهم من مدينة جولفا إلى أصفهان بغرض التوسع في تجارة الحرير وبالفعل ساهم ذلك في انتعاش تجارة الحرير مع العالم الخارجي. كما أقيمت في أصفهان ورشة لفناني البلاط الملكي وعلى رأسهم الخطاط المعروف على رضا عباسي، الذي ضم المعرض عددا من أعماله. في الصورة التي تصدرت المعرض لمدينة أصفهان نرى الساحة العامة في المدينة، التي امتلأت بالخيام ومحاطة من كل الجهات بالمحال التجارية. وعرفت الساحة بأنها مكان للاحتفالات والألعاب النارية. وعلى كل جانب من الجوانب الأربعة للميدان أقام الشاه عباس بناء خاصا، فأقام القصر الكبير وهو مقر الحكومة، ثم مسجد الشيخ لطف الله، والمسجد الملكي ومدخل بازار ضخم لتجارة الحرير والبهارات والأقمشة. و يقدم المعرض مجموعة من الأعمال التي ارتبطت بأصفهان سواء كان ذلك في صورة قطع من السجاد النادرة أو مخطوطات ومصاحف.

تقول كانبي إن الشاه رأى في الأضرحة الشهيرة في أردبيل ومشهد وقم وسيلة لرسم صورته العامة فقام بترميمها وتزيينها واهتم بإهدائها هدايا قيمة من الخزانة والمكتبة الملكية، وتردف بأن قيام الشاه بإهداء الكتب الموجودة في المكتبة الملكية فتح الباب أمام الخطاطين والكتاب لإبداع أعمال جديدة لتحل محل القطع المهداة. أردبيل التي ضمت ضريح الشيح صفي الدين أحد أسلاف الشاه أصبح لها دور قوي كرمز للدولة، وخلال حكمه قام الشاه عباس بإعادة إعمار الضريح وإهدائه مجموعة ضخمة من القطع الخزفية (1192 قطعة) والمخطوطات. و قد تم تخصيص إحدى الغرف داخل الضريح لعرض تلك القطع النادرة أطلق عليها «بيت الخزف» ويقدم المعرض صورة ضخمة للغرفة ومحتوياتها.

يضم المعرض عددا آخر من القطع التي أهداها الشاه عباس إلى الأضرحة، ومنها المخطوطات المهداة إلى مدينة مشهد، وتشير كانبي إلى أن بعض تلك القطع أصلية والبعض الآخر ليس كذلك فقد اضطر القائمون على المعرض لاستخدام قطع شبيهة بتلك التي تضمها الأضرحة لتعذر استعارة القطع لندرتها وأهميتها.

القطع المعروضة تقدم لمحة لعصر من التطور الديني والسياسي. كما يعكس العصر انتعاشا واضحا في المعمار والفنون والتجارة مع الغرب خصوصا تجارة الحرير. وبدلا من الاعتماد على تركيا فقط في تلك التجارة اتجه الشاه عباس إلى فتح أسواق جديدة للمنسوجات الحريرية الفاخرة مثل البروكار المنسوج بالحرير وخيوط الذهب والسجاد المنسوج بخيوط الحرير والذهب والفضة، ويقدم المعرض سجادتين من تلك الفئة ويقدم أيضا مجموعة نادرة من السجاد الذي يعود بعضه إلى فترة الشاه و البعض الآخر يعرض كنموذج لفن السجاد في تلك المرحلة، وتطور أساليب صناعته.

وزخرت البازارات في أصفهان بتلك المنسوجات، وحملها التجار الارمينيون إلى أوروبا والشرق الأوسط. وفي عدد من الرسومات التي يقدمها المعرض نلمح الحلل التي يرتديها الأغنياء في تلك الفترة، وهي مصنوعة من الحرير الموشى بخيوط الذهب والفضة. وساهمت تجارة الحرير في ملء خزائن الدولة بالفضة، خاصة أن أوروبا في ذلك الوقت كان لديها فائض كبير من المعدن النفيس بعد اكتشاف جنوب أميركا.

وعبر تلك التجارة تحولت أصفهان التي كانت على مفرق طرق التجارة العالمية إلى مدينة تجارية هامة، بالإضافة إلى كونها مقرا للفنانين والمفكرين.

وفي مدخل المعرض تعرض صورة ضخمة للسفير روبرت شيرلي وزوجته تيريزيا، الذين عاشا في إيران في تلك الفترة. وكان روبرت شيرلي وأخوه أنثوني قد استقرا في إيران في عام 1598 وعملا لدى الشاه عباس. ولاحقا، عمل روبرت كسفير لبلاط الشاه عباس لدى أوروبا لتكوين حلف ضد الإمبراطورية العثمانية.

اللافت في المعرض هو الشاشات الضخمة التي قدمت لقطات حية للمباني والأضرحة من أصفهان وأردبيل ومشهد وقم، ولعل تلك اللقطات أسبغت على المعرض حياة خاصة فتوقف أمامها الزوار، بل وجلس بعضهم على المقاعد المخصصة حولها للاستمتاع بمشاهدة مجموعة من أروع المباني الإسلامية، والتدقيق في جمالياتها وزخارفها. ويظل الممر الصغير الذي يقدم الشريط السينمائي نقطة ارتكاز لزائر المعرض فهو يقدم في خلاصة بديعة النهضة المعمارية التي شهدها عهد الشاه، وتجلت في المباني والمساجد والأضرحة.