حوار الأصابع الأرجنتينية في حفلات موسيقى البيانو

أرغيريتش في روما وبارنباوم في ميلانو

بارنباوم يلجأ إلى النعومة والشاعرية في العزف حين يقدم الحركة البطيئة ثم يشعل النار في الحركات السريعة دون إطناب (إ. ب .أ)
TT

غزت الأرجنتين إيطاليا هذا الشهر لا في كرة القدم بل في العزف على البيانو، فبينما كانت العازفة الشهيرة مارتا أرغيريتش تتألق في العاصمة الإيطالية الفيحاء كان دانييل بارنباوم يسحر جمهور الموسيقى الكلاسيكية في عاصمة الشمال الشهباء ميلانو. الاثنان من الأرجنتين وكلاهما درسا في بيونس ايرس منذ ستين سنة مع نفس أستاذ البيانو وانطلقا في العالم كله وحصدا أكبر الجوائز وأهم الحفلات منذ أربعة عقود.

أخذ الموسيقار بيتهوفن فيينا عاصمة الفن والموسيقى أخذ الفاتحين في عهد الإمبراطورة النمساوية ماريا تيريزا وكان الكونشرتو الأول للبيانو والاوركسترا من أوائل قطعه الرائعة التي أثبتت نضوجه الفني وتميز أسلوبه في التأليف عن موتسارت رغم تشبعه بتأثير موتسارت عليه، وهذا ما جعل عزف أرغيريتش مع أوركسترا سانتا شيشيليا بقيادة انطونيو بابانو في حديقة الموسيقى بروما مميزا لأنها فهمت تماما التصميم المتكامل البديع لموسيقى بيتهوفن وبقيت ضمن الحدود الكلاسيكية متجنبة ميلها الطبيعي للسرعة والتشويق والإبهار حين تعزف موسيقى مؤلفيها المفضلين ليست وشوبان. ساندها بابانو مع الاوركسترا بشكل ممتاز ليظهر موهبتها الخارقة وتلاعب أصابعها بمفاتيح البيانو ثم نافسها في البراعة حين قاد السيمفونية الخامسة لشوستاكوفيتش في حفلة موسيقية ستبقى في الذاكرة مع الأيام.

بدأت أرغيريتش العزف على البيانو منذ بلوغها التاسعة من العمر وكان أستاذها فينشنزو سكاراموتزا الايطالي المنشأ الذي هاجر إلى الأرجنتين مصيبا حين شجعها على الانتقال إلى أوروبا منذ الخمسينات ففازت بالجوائز الأولى في مسابقات البيانو في بولزانو بإيطاليا وجنيف ووارسو، حيث حصدت الجائزة الأولى لمسابقة شوبان، وأصبحت نجمة نسائية ناجحة لموسيقى البيانو خلال الأربعين سنة الماضية ومنحتها الحكومة الفرنسية أعلى وسام للفنانين عام 1997. كما بدأت منذ عام 2002 مشروعها الخاص في لوغانو بسويسرا لاكتشاف المواهب الجديدة الواعدة. تقول ارغيريتش إنها تعمل دوما بجد للتدرب على موسيقى بيتهوفن ولم تشعر بالرضا والارتياح عن نفسها لأنه موسيقار عظيم من أساطين الموسيقى لكن عزف موسيقاه ليس سهلا لأنها مصممة كهيكل كبير لا يمكن دخوله إلا للبارعين المتميزين أمثال عازف البيانو الألماني الراحل فيلهيلم كمبف. تستذكر ارغيريتش قول الموسيقار فرانز ليست الذي كان أيضا من كبار عازفي البيانو «العازف ليس مثل عامل البناء الذي ينفذ ما صممه المهندس المعماري ولا يمكنه أن يبقى كأداة سلبية مستسلمة من دون إدخال مشاعره الخاصة أثناء العزف فعليه أن يتكلم ويبكي ويغني لكي يعيد خلق ما كتبه المؤلف». ضغط أصابع أرغيريتش على أصابع البيانو بعث الحياة والنبض في الموسيقى من دون مبالغة أو انفعال زائد فقد أدرك متطلبات بيتهوفن وكأنه كان يهمس في أذنيها.

أما بارنباوم فقد أبدع خلال شهر كامل في ميلانو كقائد للاوركسترا وعازف للبيانو في عدة حفلات موسيقية قدمها على مسرح أوبرا لاسكالا، وتميز على وجه الخصوص بعزف وقيادة القطعة نفسها التي قدمتها أرغيريتش في روما وهي الكونشرتو الأول للبيانو والاوركسترا لبيتهوفن وكأن الاثنين عادا إلى أيام الصبا حين كانا يتنافسان أمام أستاذ البيانو في الأرجنتين. سحر بارنباوم الجمهور بطريقته الفذة في عزف بيتهوفن فهو ضليع في تلك الموسيقى منذ شبابه واسطواناته المدمجة منذ السبعينات تشهد على ذلك، إذ يلجأ إلى النعومة والشاعرية في العزف حين يقدم الحركة البطيئة ثم يشعل النار في الحركات السريعة إنما من دون إطناب، وتأثير أستاذه واضح عليه لكنه حاول منذ سنوات طويلة إثبات ما يقال «لا وجود لأساتذة بارعين بل لتلاميذ بارعين» وأصبح أساتذة البيانو يقولون لتلاميذهم إنه يتوجب عليهم الاقتداء ببارنباوم أو غيره من كبار العازفين وإلا فعليهم الانسحاب لأن مهنة عازف البيانو صعبة وعليها تنافس كبير في العالم. برهن بارنباوم في ميلانو أنه يجمع بين طريقة مؤسس العزف على البيانو باخ وبين قمة العازفين عبر التاريخ وهو ليست ومجموع الاثنين معا هو بيتهوفن كما يراه بارنباوم.

حين عمل بارنباوم كقائد للاوركسترا في شيكاغو في التسعينات كان يدعو أرغيريتش كعازفة للبيانو لكنها لم تحضر حفلة بارنباوم الموسيقية الأخيرة في ميلانو ولذا لا ندري ما هي مشاعرها تجاه أدائه فقد تغدو ناقدة ومحللة موسيقية وقد لا تعجب به، لكن أفضل السميعة الذين يصغون في الحفلات ليسوا من الموسيقيين المحترفين بل من الجمهور الوفي المحب للموسيقى وقد رأيت الكثيرين منهم في روما وفي ميلانو وقد أشرقت وجوههم حين سمعوا بيتهوفن على طريقة أرغيريتش أو على طريقة بارنباوم وكأنهم يقولون: شكرا جزيلا للأستاذ المتمكن الذي درب الاثنين واكتشف مواهبهما في بيونس ايرس منذ ستين سنة وأطلقهما في سماء العالم الفسيح واجتمعا معا في اسطوانة مدمجة منذ أعوام وفيها موسيقى دوفايا بعنوان «ليلة في حدائق اسبانيا» أروع ما فيها الحركة التي تصف حديقة الخليفة في قصر الحمراء بغرناطة أيام عز العرب في إسبانيا.