إضراب الصيادلة في مصر.. بين مؤيد ومعارض

انتهى بعد موافقة وزارة المالية على إعفائهم من المحاسبة الضريبية عن الأعوام الأربعة

تقدر نقابة الصيادلة خسائر الإضراب بأكثر من 100 مليون جنيه مصري («الشرق الأوسط»)
TT

لم تكد أم صابر (65) عاما تطأ باب شقة ابنتها بحي الأميرية بالقاهرة حتى داهمتها حالة من الإغماء والإعياء. تعرف ابنتها الوحيدة جمالات، التي تعمل محاسبة بشركة مقاولات، أنها قطعت نحو170 كلم من قريتها الصغيرة (المنشية) بمحافظة كفر الشيخ بوسط الدلتا، وأنها كعادتها استيقظت مع الفجر، فمنذ نحو ستة أشهر لم ترها، وأوحشها حفيداها الصغيران.

أم صابر بالكاد تفك الخط، سمعت من التلفزيون عن إضراب الصيادلة وإغلاق الصيدليات، لكنها طمأنت نفسها بأن الأمور في القاهرة عال العال. ستـأخذ حقنة الأنسولين بمشيئة الله، بعد تناولها وجبة إفطار شهية مع ابنتها وحفيديها (فطير فلاحي، وقشطة، وجبنة قديمة، وعسل نحل أصلي)، ثم تلعب لعبة «توت .. توت قطر زغنطوط» مع حفيديها اللذين يحملان الكثير من ملامحها وروحها.

لكن الكثير مما تمنته أم صابر في هذا الصباح المشاكس لم يتحقق، فوجهها الوردي البريء، كما وصفه جارهم العم رمضان كان مكدودا، اختفت الحُمرة منه، ونبضها بدأ ينسحب، وصوتها لا حس ولا خبر، وهي مسجاة على سرير حفيدتها «لبنى».

يقول العم رمضان: «حاولت أنا وزوجتي وابنتها إفاقتها وإعطاءها عصيرا به سكر، لكنها لم تستطع فتح فمها، هرعت أنا وزوجتي، وبمساعدة ناس آخرين إلى صيدليات الحي، لكن للأسف كلها كانت مغلقة. ولم يكن أمامنا إلا الإسراع بها إلى المستشفي الحكومي، وبقينا في حالة انتظار نحو ثلاث ساعات، حتى بدأت تستفيق، بعد أن أعطوها الأنـسولين، وعملوا لها الإسعافات اللازمة.. الحمد الله ربنا ستر».

يعلق العم رمضان على قرار غلق الصيدليات بأنه غير إنساني.. «فيه حاجة ما ينفعش فيها الكلام ده، لأن حياة الناس متعلقة بيها، والعمر مش بعزقة».

المتضررون من إضراب الصيادلة في مصر، لا يتوقف على أم صابر ومثيلاتها من مرضى السكر، بل هناك كثيرون غيرهم من أصحاب الأمراض المزمنة، حاجتهم للدواء مسألة حياة أو موت.

وجاء الإضراب احتجاجا على قيام مصلحة الضرائب بإلغاء اتفاقية كانت عقدتها مع الصيادلة عام 2005 بشأن أسس المحاسبة الضريبية للصيدليات وألغتها من طرف واحد أخيرا. ويرفض الصيادلة رغبة الحكومة بتحصيل ضرائب كاملة من كل صيدلية يزيد رأس مالها على 50 ألف جنيه (نحو 9 آلاف دولار).

وعلى أثر ذلك علَّق 100 ألف صيدلي مصري يملكون ويعملون في 40 ألف صيدلية أول من أمس إضرابهم عن العمل الذي بدأ منذ يوم الاثنين الماضي استجابة لدعوة الجمعية العمومية للنقابة. وبعد يومين من الإضراب الذي شارك فيه نحو 80 في المائة من الصيادلة المصريين، قالت مصادر برلمانية على علاقة بملف الإضراب لـ«الشرق الأوسط» إن «وساطة برلمانية» بين الحكومة ونقابة الصيادلة أنهت الأزمة بين الطرفين، بعد موافقة وزارة المالية على إعفاء الصيادلة من المحاسبة الضريبية عن الأعوام الأربعة الماضية. لكن، وبرغم من فداحة ما قد ينجم عن إضراب من هذا النوع، ثمة وجه آخر موجع للمأساة، يكمن، كما يقول غانم عبد الوهاب، قيادي ناشط بإحدى قرى مركز الشعرا بمحافظة دمياط (شمال مصر) في «المشكلة الحقيقية في النجوع والعِزب والكفور»، والتي لا يوجد فيها في الغالب، مستشفى حكومي، بل بالكاد صيدلية «كحيانة»، لكن الناس يعتمدون عليها بشكل أساسي ومصيري حين يمرضون. فالصيدلي في هذه النجوع يلعب دور الطبيب والجرّاح والممرض معا. والمؤسف أن معظم هذه الصيدليات برغم فقرها في الدواء، التزمت بقرار نقابة الصيادلة، خوفا من تعرضها لجزاء مهني، قد يفرض عليها الغلق لفترة طويلة». ويسرد غانم حالة الحاج عبد المقصود، الذي يعاني من ربو شعبي مزمن، وكيف «داخوا السبع دوخات»، على حد قوله، حتى حصلوا على بخاخة جديدة له، بعد أن نفدت القديمة، وبنبرة غاضبة يقول: «يا أخي الرجل كانت حالته تصعب على الكافر، كانت روحه هتطلع».

صورة أم صابر ومشاهد أخرى مؤلمة تناقلتها الصحف والفضائيات لمشاهد مرضى طاعنين في السن يجلسون أمام عتبات الصيدليات في انتظار أن يحصلوا على الدواء بعد انتهاء الوقت المقرر للغلق طرحت تساؤلا شائكا وملتبسا حول حق الإضراب، وإلى أي مدى يتعارض هذا الحق مع مصالح هؤلاء المرضى، والذين حولهم الإضراب إلى سبايا تحت مظلته.

سليمان إبراهيم صيدلي قديم بحي الوايلي بالقاهرة يقول: نعم أنا أتعاطف مع سؤالك من منطلق إنساني، لكن في الوقت نفسه ومن منطلق مهني، إذا كان الإضراب سيصلح أوضاعا خاطئة، تهدر حقوقنا لدى الدولة منذ سنوات فلا بأس به. أنا رحبت بالإضراب والتزمت به، والكثير من المرضى تفهموا ذلك، ثم الغلق لم يكن كليا، بل من العاشرة صباحا حتى السادسة مساء، وهذا قلل من فرص عدم الحصول على الدواء. وقد تكبدت الصيدليات ومصانع وشركات الدواء خسائر فادحة بخاصة الصيدليات الكبيرة.. أليس هذا نوعا من التضحية؟

وبادرني بحدة: إذا كانت آلمتك صورة بعض المرضى ينتظرون أمام بعض الصيدليات للحصول على الدواء، فهناك المئات من الصيادلة افترشوا أرض النقابة بعد أن أغلقوا صيدلياتهم، وتحملوا خسائر لا تحصى.. لقد نجحنا وكسبنا تعاطف المجتمع، وهذا هو المهم (تقدر نقابة الصيادلة خسائر الإضراب بأكثر من 100 مليون جنيه مصري).

المعنى نفسه أكد عليه الدكتور محمد منسي مدير صيدلية «أبو علي» بمدينة الشيخ زايد وهي أول صيدلية افتتحت في المدينة، مشيرا إلى أنه كإنسان وصيدلي لا يحبذ فكرة الإضراب خصوصا إذا كان في قطاع حساس مثل الصيدلة، ترتبط به حياة الكثير من الناس، لكن هناك التزاما نقابيا وقرارا صادرا بإجماع جمعية عمومية طارئة، ولا بد أن ينفذ ويمتثل له الجميع، طالما يهدف إلى المصلحة المشتركة.

لا يخفي الدكتور محمد شعورا خاصا بالانتصار، يتبدى في ملامحه المسالمة الطيبة. ويعتبر أن ما أسفر عنه الإضراب خطوة إيجابية مباشرة. «مصلحة الضرائب تريد أن تحاسب الصيادلة بنظام ضريبي ظالم وبأثر رجعي منذ 3 سنوات وتقرر ذلك وحدها من دون أن تستشير أحدا. الصيادلة من أكثر الناس التزاما في دفع الضرائب، كل شيء مسجل في فواتير لدى مصانع وشركات الأدوية ولدى الصيدليات نفسها.

نشوة الانتصار انفرجت على وجه الدكتور محمد بشكل أوضح حين قطع حديثنا أحد الشباب مشددا على يديه قائلا «مبروك، رفعتم رأسنا لفوق، قلتم لا للظلم».

موقف الشاب الذي انصرف على عجل انعكس بدوره على الدكتور محمد فقال بنبرة بها ثقة وتفاؤل: كلنا محتاجون إلى موقف جماعي، هناك أخطاء وسلبيات كثيرة، إضراب الصيادلة عكس تكاتفا إيجابيا، أصبحنا نفتقده في المجتمع بل في كثير من نواحي حياتنا.

وقبل أن أهم بالانصراف استوقفني الدكتور محمد للحظة وقال: «أريد أن أعتذر لكل المرضى الذين صعب عليهم الحصول على الدواء في وقت الإضراب، وأؤكد أن أي خسائر مالية تهون، مقابل أن يطلوا علينا بابتسامة ملؤها الرضا والأمل. وعقب نجاح المفاوضات بين الطرفين، عمَّمت نقابة الصيادلة بيانا على أعضائها يقول: «الحمد لله.. بفضل الله انتصرت إرادة الصيادلة.. تقرر تعليق الإضراب». وقال الدكتور حاتم الجبلي وزير الصحة والسكان إن صيغة التفاهم التي تمت مع ممثلي النقابة العامة للصيادلة جاء في مجملها مراعاة الظروف المالية والاقتصادية للصيادلة.