رؤية فنية للشرق الأوسط المعاصر

معرض «بلا حجاب»

برج المشاكل اللامتناهية للفنانة المقيمة في نيويورك ديانا الحديد (أ.ب) ومثل كل يوم للفنانة الإيرانية شادي غادريان («الشرق الأوسط»)
TT

شكل افتتاح «معرض بلا حجاب» في غاليري تشارلز ساتشي بوسط لندن، حدثا مميزا، إذ جاء بعد معرضين جريا العام الماضي في هذا الغاليري المتخصص بالفن التشكيلي المعاصر أحدهما من الصين والآخر من الهند. لكن الأعمال التي عرضت فيهما كانت تنحو منحى تجاريا فهي تسعى إلى كسب عدد واسع من الزبائن في الغرب وأن تجد طريقها إلى صالات وغرف العرض الأخرى. على العكس من ذلك جاء المعرض الجديد الخاص بفن الشرق الأوسط المعاصر ليثير زوبعة من الاهتمامات وسط جمهور واسع من المتفرجين والنقاد، فالكثير من الأعمال المعروضة حريصة على إثارة قضايا حياتية قائمة في المجتمعات التي ينتمي إليها الفنانون.

هناك ظاهرة لافتة في هذا المعرض لم تكن موجودة في المعرضين السابقين عن الصين والهند، وهذه تتمثل في إقامة أكثر من نصف الفنانين في الغرب فمن 19 فنانا مشاركا هناك 8 فقط منهم يقيمون داخل أوطانهم في الشرق الأوسط بينما يقيم بقية الفنانين إما في باريس أو برلين أو نيويورك. يمكن ملاحظة أن أعمال الفنانين المقيمين في الغرب خارج بلدانهم أقرب إلى ما هو سائد على مستوى الذائقة في الغرب، وهي لا تختلف في المعالجة واستخدام المواد عن أعمال الفنانين الغربيين، بينما نجد الفنانين المقيمين في بلدانهم يطرحون أعمالا قد لا تضارع مثيلاتها التي ابتكرها زملاؤهم المقيمون في الغرب لكنها أكثر جاذبية. فكأنهم من دون أن يدروا يهزون ما هو سائد، كذلك فإن أعمالهم تحمل عنفوانا من الغضب والحيوية والتجريبية تفتقد لها أعمال المقيمين في الغرب.

الفارق الآخر بين أعمال هؤلاء وأولئك هو في مدى التصاقها بالحاضر. فبالنسبة للذين يعيشون في بلدانهم (خصوصا أولئك الذين ما زالوا يعيشون في إيران) هناك حوار مع الحاضر وسعي لتمثيله فنيا، والتعبير عنه بوسائل كثيرة تتميز بعضها بالغرابة لكنها تظل تحمل المفاجأة البصرية وتثير تساؤلات عن طبيعة الأحكام السائدة هنا وهناك. وعلى العكس من ذلك نجد أعمال الفنانين المقيمين في الغرب ميالة أكثر لتأمل الماضي.

يمكن القول إن أغلبية الفنانين في كلتا المجموعتين ظلوا مسكونين ببلدانهم وبتجاربهم الشخصية التي تتداخل مع التجربة العامة لشعوبهم.

أول ما يثير الاهتمام ويخلق شعورا بالخشية عمل الفنان الجزائري الأصل قادر عطية (المولود عام 1981) والمقيم في باريس. ففي عمله التركيبي «شبح» احتلت تماثيله غرفة كبيرة داخل غاليري ساتشي. لكن المشاهد لا يستطيع الدخول إليها إلا من الخلف. ومن ذلك المدخل لا يبدو أننا نشاهد أكثر من كتل مجعدة من رقائق الألمنيوم المستعملة في الأفران. لكن عند التدقيق النظر فيها سندرك أننا أمام عشرات من الأشكال النسائية بقياس طبيعي وهي تركع بصفوف عديدة وباتجاه واحد. هنا فقط ندرك أن كل شكل يمثل امرأة من الشرق الأوسط. لكن هذا العمل يستثير تأويلات عديدة في نفوس الزوار، ومع الخلفية التي ينتمي إليها الفنان قادر عطية قد يحضر ذاكرتنا مقتل أولئك النساء المهنيات من طبيبات ومدرسات خلال الحرب الأهلية الجزائرية في أوائل التسعينات من القرن الماضي على يد الإسلامويين المتطرفين.

في الكاتالوج الخاص بالمعرض تقصي ليزا فرجم القيّمة على معرض «بلا حجاب: فن جديد من الشرق الأوسط» ذلك الانطباع المتكون لدى الغربيين بأن الشرق الأوسط هو ليس سوى مكان للقمع السياسي والتعصب الديني والإرهاب باعتباره مجرد «كليشهات» تمنع من فهم وتذوق الغنى والتنوع في المجتمعات الإسلامية.

لكن حقيقة وجود هذا العدد الكبير من الفنانين المقيمين خارج بلدانهم والمشاركين في هذا المعرض وطبيعة المواضيع المعالجة فنيا فيه تظهر أن هذه القناعة غير صحيحة. ففي اللوحة المخصصة لصور الفنانين نجد أن أحد الفنانين الإيرانيين المقيمين في الداخل يضع قناعا على وجهه خوفا من الملاحقة.

كذلك لا نجد المواضيع المعالجة هي حول روح النزعة الاستهلاكية أو المشاهير أو الفن في حد ذاته بل هي حول المهاجمين الانتحاريين والشرطة المتخفية بالدين والحرب التي لا نهاية لها وأوضاع النساء. وبينما قد يستغرب الزائر لهذا المعرض من وجود فنانين إيرانيين ما زالوا مقيمين في طهران على الرغم من قسوة النقد والسخرية التي يصبونها على سلطة الملالي هناك، ولكن الأغرب من ذلك أنهم ما زالوا يعالجون مواضيع تعتبر بشكل ما نوعا من المحرمات في إيران مثل موضوع الجندر والجنس والدين والسياسة من دون التفكير بما قد يترتب على أعمالهم الفنية من أذى يلحق بهم. يمكن تلمس ثيمات من نوع الفناء والهوية حاضرة أيضا في اللوحات الفوتوغرافية لحليم الكريم (المولود عام 1963 في العراق). ففي أعماله المكونة من ألواح ثلاثية (تريبتيك) تنطبق القطعتان الجانبيتان فيها اللوحة الوسط. فهنا يستخدم وجوه النساء لاستثارة تاريخ العراق. ففي لوحة «حرب مخفية» وجه فتاة جميلة ترتدي القناع التقليدي وعلى الجانبين هناك صورتان لوجه مسكون بالخوف أو الألم لكن تضبيب الصورة جعلها عسيرة على التشخيص وتحديد إن كانت فعلا لصور أشخاص حقيقيين بل قد تكون تماثيل قديمة أو أعمالا فنية أخرى. وفي الكثير من أعماله نجد الصور الواقعة في الوسط وعلى الجانبين خارج البؤرة مما يجعلها مشوشة وهذا ما يسمح لها كي تكون شبيهة بصدى يظل يعيد ترجيع الماضي باستمرار في تنويعات متلاشية تمتد عبر التاريخ منذ الأزل. هذا المسعى لمنح أعماله الفنية عمقا تاريخيا جعله يستخدم مواد قادمة من حضارات عراقية قديمة، صورا سومرية مضببة، متلاشية أو غارقة في قدم عسير على المسك.

من الأعمال المثيرة للانتباه منحوتة «برج المشاكل اللامتناهية» للفنانة السورية الأصل ديانا الحديد (المولودة عام 1981) والمقيمة في بروكلين. وهنا نجد أنفسنا أمام برج مستقبلي لبابل. وفيه استخدمت الفولاذ والجبس والخشب والبوليسترين لابتكار أشكال تجريدية تتشابك فيها المسامير وأقراص العسل بعضها ببعض. وهنا نجد برجين مطروحين أرضا. ويعطي مظهرهما انطباعا بأنهما واقعان على الأرض منذ فترة طويلة مما يجعلهما جزءا من حالة طبيعية. يمكن تلمس قدم أحد البرجين الذي يرمز إلى برج بابل والآخر معاصر وكلاهما يشيران إلى خرائب تركا وراءها كرمزين للفشل.

ما يميز أعمال هؤلاء الفنانين: قادر عطية وحليم الكريم وديانا الحديد هو أن أعمالهم تسمو بمحتواها السياسي إلى مجال أعلى يحررها من البعد السياسي الضيق لكنها في الوقت تتضمنه بطريقة موحية، أكثر من جعلها إعلانا سياسيا بصريا. فعلى الرغم من أن أعمالهم تشير بوضوح إلى الوضع في الشرق الأوسط لكن إبداعهم الفني يمس ما هو شمولي وقابل على إشراك الآخرين بالتحاور معه حتى لو لم يكونوا منتمين إلى الشرق الأوسط ولا يعتمد على مدى معرفة المشاهد للقضايا السياسية والاجتماعية هناك. وهذه ليست حالة جميع الأعمال الفنية الأخرى.

يمكن القول إن أكثر الفنانين حدة وصراحة في المعرض هم الإيرانيون الذين ما زالوا يقيمون في إيران. فهنا نجد الفنانين ذكورا وإناثا يعبرون عن غضبهم واستيائهم الشديدين من الطريقة التي تعامل النساء وفقها في بلدهم. الجرأة والمباشرة خاصية مشتركة لكل الفنانين الإيرانيين وأبرزهم الفنانة تالا مدني التي تنضح أعمالها بسخرية ذكية ومريرة من الملالي وما يفرضونه من قسر على النساء. أما شادري غاديريان (المولود عام 1974) فهي تبتكر بورتريهات قريبة للسريالية للأنوثة الإيرانية عن طريق التقاط صور فوتوغرافية لنساء «محجبات» مع مواعين وقفاز مطاطي بدلا من الوجوه، وهنا تبلغ المباشرة والسطحية والتبسيط أقصى حدودها.

كذلك هناك عمل للفنان اللبناني مروان رشموني من بيروت حيث صف في عمله أكداس من الصناديق الكونكريتية لخلق قاطع شقق اضطر إلى الهرب منه خلال الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في عام 2006، كذلك هناك أعمال للفنانة الفلسطينية وفاء حوراني التي تستلهم الجدار الإسرائيلي حيث ينمو ويزدهر بجانبه موقع فلسطيني تمكن من البقاء.

سيستمر المعرض حتى 6 مايو (أيار) في غاليري تشارلس ساتشي الجديد بشارع «كنغز رود».