مي غصوب.. ما زال الأحبة والأصدقاء يتحلقون حولها

في ذكراها الثانية.. بيروت تستذكرها عزفا ورقصا

الفنان آرا أزاد مع أحد الوجوه التي رسمها يوم السبت الماضي تحية لمي غصوب (تصوير: حسام مشيمش)
TT

في الذكرى الثانية لرحيل الكاتبة والفنانة والناشرة مي غصوب، اجتمع في «قصر اليونسكو» في بيروت، مساء أول من أمس، السبت، أصدقاؤها ومحبوها حول أعمالها وكتاباتها وما كانت تهوى وما حوله تمحورت أيامها. لم تكن الذكرى حزينة بقدر ما كانت تلحّ على استعادة سيرة فيها من التنوع والشغف ما جعلها عصية على التأطير والتحديد. وجاءت احتفالية السبت الجامعة لأحبتها، اختتاما لأسبوع عرضت خلاله – وفي الصالة نفسها - منحوتات لمي غصوب أحاطت بها أعمال في الرسم والنحت والتجهيز والتصوير الفوتوغرافي لفنانين أحبوها مثل كيكي بوكاسا، رفيق مجذوب، ريتا سعد، جيلبير الحاج، نادين غانم، وغيرهم. ومساء أول من أمس، كان الختام شبيها بمزاج مي، متنوعا كما أيامها التي وزعتها بين العواصم واللغات والفنون، أدبا ورسما ونحتا وتصميما. بقيت منحوتات مي المعدنية في تلك الصالة الفسيحة، وبينها انعقد الجمع. كائنات فرغتها مي ولم تبق منها إلا خطوطها العريضة، حتى صارت تشبه الهياكل العظمية لكنها لم تتخل عن هندامها فألبستها الشالات والحلي والنظارات، وجعلتها تحتضن آلات موسيقية. وكأنما أجساد هذه الكائنات التي نحتتها مي ليست غير هامش أرادت التخلص منه، محتفظة بما اعتبرته جوهرا أو أكثر بقاء ومقاومة لفعل الزمن. قراءات الأدباء الذين أرادوا الاحتفال بمي يوم أول من أمس، بدأها الشاعر عباس بيضون، لافتا إلى إكسسوارات مي التي ألبستها لمنحوتاتها التي كانت تحيط بنا ونحن نتحلق لسماع قراءات استذكرتها. تساءل عباس بيضون عن هذه الأشياء الحميمة، عن أحذية الفنانة التي لم يكن ينتبه لها حين كان يقابلها، عن كل تلك التفاصيل التي لم يكن يعرها اهتماما، وتبدو اليوم معانيها مختلفة ومغايرة. وتبع بيضون الروائي رشيد الضعيف بكلمة قاسية عن زيارات مي للبنان في عز حروبه، أيام كان المواطن العادي يجد نفسه ذليلا، قميئا، يختبئ كالفئران خائفا من القصف العشوائي الذي يمكن أن يطيح به في أي لحظة. زيارات مي كانت تعيد لرشيد الضعيف - على ما يقوله - إحساسا مفقودا بأن ثمة في بيروت ما يستحق أن يعاش، وإلا لماذا تأتي هذه اللبنانية التي تعيش بين نيويورك ولندن وباريس وتستطيع أن تحط أين تريد، إلى هذه المدينة؟ مي كانت تأتي لتبث الحياة في أرواح الأصدقاء اليائسين في مدينة كادت تلفظ كل أمل أو رجاء. روزان خلف قرأت بالإنجليزية من كتاب لمي، سجلت فيه يومياتها وتفاصيلها الحميمة. كان وقت مي أضيق من أن يتسع لبرنامجها المكتظ بالرغبات والاحتياجات والمواعيد. إيقاعها السريع يجعل الكتابة تلهث وكأنها تركض بسرعة، من دون أن تتمكن من التقاط أنفاسها. جلوسا أو قعودا على الكراسي القليلة التي توزعت في الصالة، تابع أحبة مي الصوت الذي يقرأ رسائلها بالإنجليزية، وشاشتان صغيرتان كانتا تبثان صورا تحاول أن تلحق بكلام الرسائل. الحرب والقلق على الأهل والوطن فحوى هذه الكلمات الحزينة التي تبادلتها مع إحدى الصديقات. الصوت لم يكن دائما بوضوح يجعلنا نتتبع خط الرسائل صعودا وهبوطا، والوقوف لساعتين كان مجهدا للمحتفلين بذكرى الراحلة.

لكن المنظمين أصروا على أن تكون الاحتفالية جامعة للفنون، بتلاوينها التعبيرية، فقدم الفنان آرا أزاد عرضا لرسم حي على السريع، على جدارين أبيضين كانا قد جهزا لهذه الغاية. آرا رسم وجوها متكسرة هائمة باللون الفحمي على اللون الأبيض. وجوه آرا لا تنظر لبعضها البعض، بل يشيح كل وجه بنظره إلى جهة، بحيث لا يلتقي بالآخر. خط الوجوه يضيق ويصغر حتى تتلاشى التعابير، وتقودنا إلى ما يشبه القنبلة الحمراء التي تستعد للانفجار في وجهنا نحن.

لم ينته اللقاء دون عزف موسيقي، ورقص «الكابويرا» البرازيلي، ذي الأصول الأفريقية. رقص يستلهم فنون القتال القديمة، لكنه أيضا يسعى لتحرير الجسد والنفس بحركات تختلط فيها ثقافات وتقاليد، لكن الإنسان باختلاجاته هو الحاضر الأكبر.

سنتان على رحيل مي غصوب، و«دار الساقي» التي كانت لها المساهمة الكبرى في تأسيسها كانت الحاضر الأكبر في الاحتفال، وكذلك كل تلك الفنون التي وزعت نفسها فيها ومن أجلها، تضافرت لتحية امرأة لا تزال مشغولة بالبحث عن ذاتها.