السفن الخشبية.. تميمة «عزبة البرج» المصرية

صناعة يتوارثها الأبناء والأحفاد ولها أسرارها الخاصة

أحد الموانئ المصرية وقد اكتظ بالسفن («الشرق الاوسط»)
TT

مثلما للبشر أسرارهم وعالمهم الخاص، للسفن أيضا أسرارها وعالمها الذي يعرف متعته الحقيقية من يقومون بتصميمها وبنائها.. فغالبا ما تحمل السفن ملامحهم، وأحيانا تتحول هذه الملامح إلى تميمة يتوارثها الأبناء والأحفاد.

في قرية عزبة البرج الصغيرة بمحافظة دمياط شمال شرقي دلتا مصر، تطالعك هذه الحقيقة بوضوح، وربما تتعجب حين تبدو لك القرية ببيوتها وسكانها وكأنها مركب صغير. فها هو الحاج صلاح علي «شيخ المهنة» يجلس على سلم أسفل مركب خشبي في مراحله الأولى للبناء، وبجواره اثنان من أطفاله لم يتجاوز عمرهما التاسعة والعاشرة يراقبان في دهشة بالغة حركته الخفيفة في تثبيت أخشاب هيكل مركب صيد من النوعية التي تخرج لصيد الأسماك بالسواحل الدولية.

يقول الحاج صلاح عبد الفتاح الذي يعمل في هذه الصناعة منذ 40 عاما إنه يحاول أن يعلم أبناءه أسرار هذه المهنة التي تحتفظ وتشتهر بها قريته الصغيرة المطلة على البحر المتوسط. مؤكدا أن لهذه المهنة أسرارها ولا يزال أبناء هذه القرية يتوارثونها، ولا يسمحون لأحد من خارج القرية بمعرفتها. «فلا يوجد غريب واحد داخل القرية التي يعمل 80 في المائة من سكانها البالغ عددهم نحو 10 آلاف نسمة في الصيد أو مهن تتصل به».

وبشيء من الفخر يضيف الحاج صلاح «إنهم صناع سفن مهرة يحرصون على إتقان عملهم ومراعاة عدم وجود أي خطأ خلال مراحل عملية التصنيع التي تتم جميعها بشكل يدوي».

وعن عملية بناء السفن يقول شيخ المهنة: «بناء السفينة يخضع لنسب في الطول والعرض والارتفاع يجب أن يكون العاملون بها على خبرة كبيرة.. هنا سر المهنة الذي يعطيه الأجداد للأبناء والأحفاد. فنسيان مسمار واحد في العمود الفقري للسفينة يؤدي إلى غرقها فور تدشينها بالمياه». ما يميز هذه القرية الصغيرة إيقاع الحركة الطاغي في كل مكان، ويلفت نظرك جذوع الأشجار التي تنتشر في المكان المخصص لتصنيع السفن، وكوكبة من الصبية تقوم بتنظيفها وتقطعيها على منشار كهربائي حسب المقاسات التي تحتاجها كل سفينة. فيما تقبع على شاطئ صغير بالقرية العشرات من هياكل السفن التي يتم بناؤها، ومعظمها خشبية حيث لا يزال أغلب أبناء هذه الصناعة بالقرية يفضلون خشب الأشجار في تصنيع السفن، ولا يستخدم الحديد إلا عدد قليل منهم.

تبدأ عملية بناء السفينة بعمل العيدان وهي بمثابة العمود الفقري لها ثم يتم بناء الطابق الأول. ويوضح الحاج صلاح أنه يقسم إلى خمسة أجزاء هي: المخزن وغرفة المحرك ومحرك الثلاجة وغرفة الثلاجة الأساسية وملحق الثلاجة، فيما يحتوي الطابق الثاني على حجرات النوم والثالث على قمرة القيادة وأجهزة السفينة. ويشير إلى أن مصنعي سفن الصيد التي يتراوح طولها بين 22 و 35 مترا يستخدمون أخشاب أشجار التوت والكافور في صناعة السفن بشكل يدوي.

أما عن تكلفة المركب فيقول الحاج صلاح إنها تتوقف على طلب الزبون، ويستغرق صنع المركب عدة شهور قد تصل إلى سنة في حالة المركب الكبيرة.

سعد أبو المعاطي، شاب يعمل في صناعة السفن منذ سن التاسعة وهو الآن في السابعة والعشرين يقول: «ورثت المهنة عن والدي أنا وشقيقي الأكبر.. طريقة العمل كما هي، نفس الطريقة التي ورثتها عن والدي وهي نفس الطريقة التي ورثها أبي عن جدي. وهنا في العزبة نستخدم نفس الخامات التي استخدمت منذ نشأة هذه الصناعة بها منذ عشرات السنين».

لكن منحنى الربح في صناعة السفن لا يرتبط فقط بجودة الصناعة، فمعظم العاملين بها يذكرون أن صناعتهم مرتبطة كثيرا بالصيد، فإذا كانت ظروف الصيد جيدة وتحقق رواجا، يحدث أيضا انتعاش في تصنيع السفن، لأن هذه الصناعة -على حد قولهم - تقوم على مهنة الصيد، بالقياس إلى العدد القليل من السفن السياحية التي تصنع لحساب بعض الشركات التي تعمل بالبحر الأحمر.

ملمح من أسرار المهنة يكشف عنه محمود شطا، الذي يعمل في المهنة منذ 35 عاما، فيقول وهو يتابع إجراء تعديل في هيكل إحدى السفن: «السفن التي يتم تصنيعها من الحديد عادة ما يصعب إصلاحها عند تلف أي جزء بها وتكلفة الإصلاح عالية، إضافة إلى تفاعل الحديد مع المياه ما جعل صناعة السفن الخشبية باقية حتى الآن. ثم أن السفينة الخشب عمرها الافتراضي أطول من السفينة الحديد.. الحديد أقوى وسعره أعلى لكن عمره قصير، الأغلبية هنا تصنع السفن الخشبية».

ويقول صلاح السمبسكاني أحد مصنعي مراكب الصيد واليخوت: عزبة البرج تصدر إنتاجها إلى اليونان وقبرص وليبيا وغيرها لأن مراكبها معروفة بالمتانة والصنعة الجيدة بالإضافة إلى رخص السعر.

ويتابع السمبسكاني: البعض قد يفضل المراكب الحديدية، لكنها مكلفة ولا تعيش كثيرا فهي تتعرض للصدأ، وفي المقابل تحتاج إلى صيانة كل عامين بينما الخشبية كل (8 ـ 10 شهور)، كما أن المركب الحديدية تكهن بعد عشر سنوات خاصة عندما يكون الحديد غير مطابق لشروط تصنيع المراكب في البحر.

وبحرص شديد تحدث محمد أبو عطايا وهو شاب عمره لا يزيد على 35 عاما، صاحب إحدى الشركات التي تقوم ببناء السفن بمدينة عزبة البرج، معتقدا في البداية أنني قد أكون من مصلحة الضرائب وأحاول الحصول على معلومات منه حول مكاسب هذه الصناعة التي يفرض عليها أبناء عزبة البرج السرية التامة. لكنه سرعان ما اطمأن ووافق على الحديث، بعد أن أخرجت له هويتي الصحافية. سألته عن مدى توافر العمالة اللازمة لهذه المهنة فقال: بصراحة المهن تعاني من نقص العمالة حاليا والعديد من المشكلات، بسبب هجرة الكثير من العاملين لها، والسفر للعمل في دول الخليج ولبنان.

وقال أبو عطايا: إن أجرة العامل الماهر تصل إلى مئة جنيه في اليوم الواحد وأحيانا لا تجده. في حين تتراوح كلفة بناء السفينة الخشبية ما بين 250 ألفا ومليوني جنيه، وتزيد الكلفة أو تقل حسب طول السفينة وإمكاناتها.

هذه الكلفة العالية في صناعة السفن خلفت عدة مشكلات يقول عنها أحمد القباني وهو صاحب ورشة نجارة بالعزبة: الصناعة أصبحت مكلفة نتيجة ارتفاع أسعار الأخشاب خاصة المستخدمة في التقفيل النهائي للمركب وعادة ما تكون من خشب السويد والبيض. وهو خشب يستورد من خارج البلاد. وقد انعكس ذلك على صناعة السفن بالعزبة، حيث تراجعت كثيرا معدلاتها.. وكنت منذ ثماني سنوات لا تستطيع السير على الشاطئ هنا من كثرة المراكب.

والحل في نظر القباني يكمن في ضرورة أن تخفض الحكومة الضرائب الجمركية، وتقدم تسهيلات لاستيراد هذه الخامات من الخارج، وأن توفر نوعا من الحماية المهنية للكثير من العمال الذين يفنون حياتهم في العمل في هذه الصناعة، وتشكل مصدر الرزق الوحيد لهم.