استديوهات التصوير في البلقان.. صراع من أجل البقاء

مصورون: أبناؤنا لن يمارسوا هذا العمل لأنه لن يكون هناك استديو تصوير بعد 10 سنوات

بعض الاستديوهات ستتحول إلى عيادات لطب الأسنان والمختبرات لأجيال المصورين القادمة («الشرق الأوسط»)
TT

لا أحد يعرف بالتحديد متى ستنقرض استديوهات التصوير، كغيرها من المهن، كالمطبوعات أو صناعة الطرابيش. لكن المعروف هو أن الإقبال على استديوهات التصوير يقل يوما بعد يوم، منذ ظهور كاميرات التصوير الرقمي «ديجيتال»، وظهور بوادر تحول في طريقة إعداد صور جوازات السفر والبطاقات الشخصية (الهوية) ورخص السياقة وغيرها.

ويقول الكثير ممن التقتهم «الشرق الأوسط» إن كاميرات الديجيتال أو كاميرات الهاتف المحمول تحافظ أكثر على خصوصياتهم. وليسوا في حاجة الآن إلى نشر غسيلهم ولو على مستوى استديوهات التصوير. إضافة إلى ذلك يرى الكثير من الشباب أن كاميرات الديجيتال المختلفة بما فيها المحمول يمكن استخدامها لانتهاك خصوصيات الآخرين أكثر من السابق. ومن ناحية أخرى تعد الكاميرات الرقمية أقل تكلفة من الناحية المادية واستهلاك الوقت من الكاميرات التقليدية.

وقد أكد أصحاب استديوهات التصوير الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» على أن المهنة لن تعمر أكثر من 5 سنوات أخرى، وفي أحسن الأحوال 10 سنوات قادمة. وقال مفيد حاجيتش صاحب «حاجيتش»، أشهر استديوهات التصوير في العاصمة سراييفو، وتحديدا في الحي العتيق باش تشارشيا، وهو متزوج وأب لثلاثة أطفال ويعمل في مجال التصوير منذ 1970: «أحب هذا العمل الذي قضيت فيه نحو 40 سنة، أي منذ كنت طفلا، ولكنه عمل يتطلب الكثير من الجهد، ولا يدر إلا القليل من الأرباح». وعن أسوأ وأجمل ما في عمل استديوهات التصوير قال حاجيتش: «ذكرت قبل قليل أن العمل يتطلب جهدا كبيرا، ولكن عائداته قليلة، وهذا هو السيئ، أما أجمل ما في العمل فهو التقدم التكنولوجي المتسارع الذي يشهده قطاع التصوير، فكل يوم هناك الأفضل في هذا المجال».

وحول تأثير التصوير الرقمي على عمل المصورين قال: «التأثير مختلف هنا، هناك تأثير إيجابي على مستوى الجودة نحو الأحسن والأفضل، وفي نفس الوقت هناك تأثير سلبي يتمثل في استغناء الزبائن عن خدمات إعداد صور الأفلام التقليدية بعد ظهور الكاميرات الرقمية منذ عدة سنوات والمزودة بحافظات إلكترونية لتخزين الصور، وكذلك طابعاتها الذاتية، مما أثر سلبيا على عمل استديوهات التصوير. فقد اختفت أو كادت تختفي كاميرات التصوير التقليدية رغم انخفاض أسعارها بشكل درامي، فآلة التصوير التقليدية التي كانت تباع بنحو 3 آلاف يورو أصبحت تباع بخمسين يورو على أكثر تقدير، ولا تجد من يشتريها».

ورغم انخفاض الإقبال على استوديوهات التصوير في البلقان، فإن للعمل موارد أخرى. ويذكر مفيد حاجيتش أن مواسم الانتخابات فرصة لتحقيق طفرة على صعيد جني أرباح إضافية: «في أثناء الانتخابات نقوم بتصوير المرشحين وإعداد الدعايات الانتخابية المرافقة التي توضع على اللوحات الإعلانية الكبيرة». ولشهرة استديو «حاجيتش» يحرص مشاهير السياسة والرياضة والفن على ارتياده، ويزدان مدخل الاستديو بصورهم. لكن ذلك ليس سوى جزء من الماضي التليد، فتلك الصور تعود إلى سنوات خلت، أما اليوم فكل شيء قد تغير تقريبا. ومن بين من لاحظت «الشرق الأوسط» صورهم في داخل الاستديو الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش، وابنه باكر، ومن الرياضيين لاعب السلة الشهير عبد الكريم الذي اعتنق الإسلام قبل عدة سنوات. ومن الفنانين دينو مرلين، وآخرون. كما يمكن مشاهدة صور الكثير من أعضاء السلك الدبلوماسي العاملين في سراييفو.

وترى سوكات (23 سنة) العاملة في استديو «غراد» أنه «هناك تأثير كبير على عمل استديوهات التصوير؛ الناس لم يعودوا في حاجة إلى ذلك مما أثر على عملنا كثيرا». وتتابع: «في السابق كان الناس يشترون الأفلام ونقوم نحن بتحميض الصور وإعدادها وتكبيرها أو تصغيرها وبيع أفلام أخرى، وهذا لم يعد ممكنا بعد ظهور الكاميرات الرقمية»، وترى سوكات أن استديوهات التصوير لن تعمر أكثر من 5 سنوات أخرى: «ستأخذ منا الشرطة عمل صور جوازات السفر، واهتمام الناس بالكاميرات الديجيتال يزداد، وكذلك كاميرات المحمول (الموبيتال)، فقد وصلت الآن إلى مستوى 10 ميغابيكسلات، ولم تعد ألبومات الصور، هي المكان المناسب لتخليد الذكريات، بل حافظة الهاتف المحمول أو الحاسوب المحمول (لاب توب) أو غيره، والكثير من الناس حولوا صورهم في الألبومات إلى الحاسوب المحمول عن طريق النسخ. لقد ذهب زمن بكامله يا صديقي».

وتواصل: «ما زلنا نصارع من أجل البقاء، ونحن في انتظار الضربة القاضية، سحب مورد الرزق من صور الجوازات وكذلك صور التأشيرات، فإذا ألغيت تأشيرة الدخول لدول الاتحاد الأوروبي نكون عندها قد وصنا إلى الرمق الأخير».

بعض استديوهات التصوير حاولت التأقلم مع الوضع الجديد، مستخدمة الحكمة العربية «داوني بالتي كانت هي الداء»، فقد أفسحت جانبا كبيرا من أركانها لبيع كاميرات الديجيتال والهواتف المحمولة، وكذلك إعداد المواقع الإلكترونية واختيار ألوانها، لكن سوكات تشعر بخوف تجاه هذه التكنولوجيا التي حرمتهم رزقًا كان وراء دخولها وشقيقها للجامعة: «لن نمارس هذا العمل في المستقبل، أخي سيكون طبيب أسنان وأنا أدرس الكيمياء، وبعد وصول والدي إلى سن التقاعد - وهو قريب جدا - سنجعل من المحل عيادة أسنان أو مختبرا خاصا بي».

وعن العمل مع الصحف قالت: «الصحف لديها مصوروها ولديها أجهزتها الخاصة، ولا أعتقد أنهم سيحتاجوننا».

زمينا حساناغيتشا (45 سنة)، وهي تعمل مع زوجها في استديو تصوير «حساناغيتشا» منذ 7 سنوات، لكن الاستديو يعمل منذ أكثر من عقدين، قالت: «أعمل في هذا الاستديو مع زوجي منذ 7 سنوات، أما زوجي (50 سنة) فهو في هذا المجال منذ 30 سنة». وعن ظروف العمل قالت: «الوضع صعب جدا، وهو يتغير من سيئ إلى ما هو أسوأ. التقاط الصور تعبير عن الفرح».

وعن تأثير الكاميرات الديجيتال على عمل استديوهات التصوير أجابت: «استخدام التكنولوجيا الرقمية في الغرب أسرع، الديجيتال عندنا لا يزال موضة الشباب». وعن الفرق بين الكاميرات التقليدية وكاميرات الديجيتال قالت: «الكاميرات التقليدية العاملة بأفلام كانت تحتاج إلى مهارة أعلى، وكاميرات الديجيتال ليست أفضل، ولكن يمكن إصلاح أخطاء المصورين الذين يستخدمونها». وأعربت عن حزنها «لأن فن التصوير فقد رونقه وجماله ورومانسيته، وجرفته السرعة كما جرفت أشياء أخرى كثيرة».

أشياء كثيرة فقدتها استديوهات التصوير في العالم، ولكن بنسب تختلف من مكان إلى آخر، مما يجعل الجميع يودون لو تتوقف ساعة الزمن، أو تعود قليلا إلى الوراء، فهناك من فاجأته طفرة التكنولوجيا دون أن يتمكن من تسديد ديونه: «هذه الآلات التي تشاهدها اشتريناها بقرض بنكي لم نسدده بعد، وعائدات الاستديو تقل باطراد. لم نعد نستقبل من يريدون صورا لرخص القيادة، ولا من يريدوننا أن نصور أعراسهم وأفراحهم، وسنفقد في المستقبل من يريدون صورا لجوازات السفر، وكذلك للحصول على تأشيرة دخول للاتحاد الأوروبي»، وختمت حديثها قائلة: «أبناؤنا لن يمارسوا هذا العمل لأنه لن يكون هناك استديو تصوير بعد 10 سنوات على الأكثر».