أهل فلورنسا يختبئون في مسارحها في «لعبة الأدوار» مع بيرانديللو

يتركون شوارع مدينة عهد النهضة للسياح والغرباء

TT

تعيش فلورنسا في هذه الأيام الماطرة في المسارح والمتاحف ودور السينما، فهي الملجأ الطبيعي لأهلها من محبي الفن والجمال بعد أن هجروا شوارعها للسياح الأجانب وسئموا سوء الأحوال الجوية والشتاء الكالح. أكثر مؤلفي المسرحيات شعبية لهذا الموسم الذي يجذب الجماهير الكبيرة هو لويجي بيرانديللو (1867 – 1936 ) المولود في أغريغنتو بجزيرة صقلية صاحب مسرحيات «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» و«لذة الاستقامة» و«أنت على حق إن كنت تظن ذلك». وكذلك المسرحية التي قلما يجري تمثيلها «لعبة الأدوار»، فهي تنطلق من الواقع وتشوهه بشكل ساخر مضحك مثل الكاريكاتور بالنسبة للرسم. افتتح مسرح «لا بيرغولا» العريق في العام الجديد موسم بيرانديللو بهذه المسرحية الناجحة قبل التسلسل في عرض مسرحياته الأخرى الأكثر شهرة، وكان الإقبال الشديد عليها مصداقا لشعور الجمهور وكأنهم يقولون: متى لم تذق نفسك فرح الهزل كربها غم الجد والجو الرمادي الممطر والريح الباردة. كتب بيرانديللو «لعبة الأدوار» عام 1918 وعرضت لأول مرة في روما ولم يرها المتفرجون في فلورنسا على المسرح منذ 54 سنة، فهي تروي قصة زوجين متنازعين يستخدم كلاهما التعبير الكلامي وجميل العبارة للتغطية والتمويه عن مشاكلهما العويصة والرغبة في الانتقام، وكأن الزوج والزوجة يقومان بلعب أدوار مسرحية على خشبة الواقع. لم يفقد الحوار حيويته ونضارته وسخريته الهزلية وكأن النص قد كُتب مؤخرا. أبرز إخراج ايغيستو ماركوتشي الموفق والتمثيل المتقن البارع للممثلين جيبي ليجيسيس ومارينيلا بارجيلي ولوتشيانو فيرجيليو سخافة التسلح بالكلمات القاسية المنمقة لتغطية مأزق العائلة وعمق الفراغ في العيش من دون حب ومن دون مخرج إنساني لائق. فالحياة تضيع عبثا واللغز يبقى مغلفا بالأوهام. حبكة المسرحية تبين أن الزوج المنطقي العقلاني منفصل عن زوجته السطحية المتقلبة منذ ثلاثة أعوام ويدرك أنها اتخذت لنفسها عشيقا، بينما تسعى الزوجة إلى التخلص من زوجها ثم تتطور الحبكة مع تبدل شخصيته بين الأمس واليوم، فيلجأ إلى مؤامرة تقتضي التخلص من العشيق بوضعه في فخ يصعب الإفلات منه. فيبعث للزوجة بفرقة إسبانية راقصة تدعي أنها ضلت طريقها ويبحث أفرادها مع صديقهم النبيل الايطالي عن اسبانية تسكن سرا في شقة في نفس المبنى. يفاجأ العشيقان بدخول هذا الجمع ويضطر العشيق إلى الادعاء بأنه الزوج وتنتهي القصة بمبارزة بالمسدسات بين النبيل والعشيق تكون نهايتها مصرع العشيق الذي اضطر لقبول التحدي للدفاع عن شرفه باعتباره الزوج المخدوع.

يتميز أسلوب بيرانديللو بالتشويق وبطريقته الخاصة في عرض الحقيقة وإقناع المتفرج أن ما يراه على خشبة المسرح هو إعادة لشيء ما حصل في الواقع، وقد حارب والده مع غاريبالدي من أجل تحقيق الوحدة الإيطالية وانضم بيرانديللو إلى الحزب الفاشي أثناء حكم موسوليني الذي أسند إليه عام 1925 إدارة مسرح الفن بروما، لكنه انسحب من الحزب احتجاجا على غزو إيطاليا لأثيوبيا في الثلاثينات، وكانت زوجته تحس بأنها غريبة عن عالمه الروائي، ثم أصبحت عدوة له وانتهت في مصح للأمراض العقلية. وحاز على جائزة نوبل للآداب عام 1934 لجرأته وتألقه. كما ترك أثرا واضحا على أعمال الكتاب المسرحيين المعروفين أمثال جان أنوي وجان بول سارتر وجان جينيه وصموئيل بيكيت واوحين اونيل، ويعتبر أهم كاتب مسرحي إيطالي في القرن العشرين.

حين عرضت مسرحيته الشهيرة «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» لأول مرة في روما عام 1921 انقسم الجمهور بين مؤيد ومعارض وصاح بعضهم «ضعوه في مستشفى المجانين مع زوجته». في مسرحية «لعبة الأدوار» التي شاهدنا الآن يستعمل بيرانديللو على لسان الزوج المتآمر عبارة «زوجتي كانت تقف ضدي على الدوام ولم تكن معي مطلقا». الحقيقة هي أن بيرانديللو يهتم في مسرحياته ورواياته مثل الرواية المشهورة بعنوان «المرحوم ماتيا باسكال» بتناقضات الحياة ومشكلة الشخصية. فالإنسان، كما يعتقد، يحيى بالنسبة لعلاقته مع الآخرين، وفي مسرحية «أنت على حق إن كنت تظن ذلك» نرى شخصين يفسران شخصية شخص ثالث بشكل مختلف ومتعارض، وفي مسرحية «هنري الرابع» يتصور المجنون نفسه إمبراطورا من القرون الوسطى. فكرة الصراع بين الواقع والوهم التي لاحظناها في «لعبة الأدوار» تتكرر في مسرحية أخرى حين يعود الابن إلى بيت والدته التي تكتشف أنه غير ما كانت تظن عن شخصيته، وحين يموت تتعلق بأوهامها عنه أكثر من اكتراثها بالحقيقة التي اكتشفتها.

خرج الجمهور في فلورنسا معجبا بأفكار المسرحية وأدائها الجيد واستمتع بسخريتها لكن كثر منهم أحسوا بأن بيرانديللو متشائم وتغلب النزعة الذهنية على أعماله، ولعل البعض تذكر قوله على لسان إحدى الشخصيات «الحياة مسيرة تعيسة من التهريج، فنحن نخدع أنفسنا على الدوام بخلق ارتجالي للواقع الذي يبدو لنا، من حين لآخر، أنه ليس سوى وهم لا فائدة منه». أو قول «كل شخص يقدم نفسه للآخر بشكل يلائم ما يبغيه من علاقته مع الشخص الآخر». بكلمة مختصرة: العواطف تتغلب على العقل. ألم يقل بيرانديللو: أنت على حق إن كنت تظن ذلك !