اللبناني شارل خوري.. حين ينضح التجريب المتواصل فضولا جماليا

بعدما حاز جائزة متحف سرسق يعرض «لوحات ومنحوتات» في غاليري «جانين ربيز» في بيروت

شارل خوري في المعرض («الشرق الأوسط»)
TT

بعفوية طفل ونَهَم مراهق وجنون شاب ونُضج كهل، يلاحق الفنان التشكيلي اللبناني شارل خوري تخيّلاته مستعينا بريشة «نظيفة» وملوانة خصبة، فيترجمها «لوحات ومنحوتات» (عنوان معرضه). بنحو ستين عملا يملأ هذا الفنان «غاليري جنين ربيز» في منطقة الروشة في بيروت، بعدما أفرغ الكثير مما في مخيّلته من ألوان وأشكال وخلفيات، بإصرار ومثابرة على البناء الجمالي، إذ يجد الزائر نفسه أمام مجموعة من أعمال تنضح فضولا، يؤكّده التجريب المتواصل والاحتمالات اللامتناهية المفتوحة على ألف أفق وأفق. يضع خوري الإنسان نُصْبَ ريشته، وبخطوط مستقيمة وموجّهة تتعمّد التقشّف في التفاصيل، يطارده. والنتيجة عشرات البورتريهات التي تركّز على الوجه وتهمل الجسم. فما يهمّه هو رصد تحوّلات الإنسان في مراحله العمرية المختلفة وفي حالاته العاطفية المتبدّلة، المتقلّبة بين الهدوء والغضب، بين السرور والحزن، بين التروي والانفعال. كلّها لحظات واضح أن الفنان رصدها ليصوّرها كما هي، من دون أي نيّة للتأليف أو السرد. ربما لأن ما يعنيه هو التجريب والتجريب لبلوغ شاطئ البناء الجمالي. والمثابرة على الاختبار لم توقعه في فخ رتابة التكرار «لأني في كل لوحة أعيد تكوين المشهد فيبدو العمل جديدا»، كما يقول خوري في لقاء مع «الشرق الأوسط». هذا الفنان الذي حاز العام الفائت جائزة «صالون الخريف الـ28 في متحف سرسق» عن جداريته التي قسّمها مربعات في كل منها وجه، راح في هذا المعرض الذي استغرق العمل عليه 4 سنوات متقطّعة، يوسّع محاولاته فإذا به يقدّم لوحات تضم وجهين أو ثلاثة أو عشرة أو حتى أكثر.

فتلك الجدارية فتحت له رحابا أوسع ليجرّب مقاسات وألوانا وهيئات جديدة، والأهم ليعثر في كل محاولة، على مزيد من الخصوصية بعدما، بحسب قوله، «ولّى زمن المدارس الفنية وحلّت محلّها التيارات التي يصارع فيها الفنان ليتفرّد بشيء ما. لذلك أعتقد أنني أنتمي إلى تيار التعبيرية أو التصويرية الجديدة الذي يمتاز بعودة إلى الإنسان وقيمه».

وبعد الرسم على المربعات الصغيرة يحين دور الجمع. وهذه المهمة لا تقلّ شأنا عن سابقاتها، إذ إن ترتيب المربعات يحتاج إلى الكثير من الجهد لتنسيق الخلفيات الملوّنة والمزدانة أحيانا بأشكال هندسية عند الأطراف، حتى تأتي الهيئة العامة متناغمة ومتماسكة، فيرتاح معها النظر.

واللافت أن هذا الفنان انطلق من خطوط مستقيمة متخلّيا عن أي تعرجات أو انحناءات تُذكر، وشيئا فشيئا راح الوجه يقترب مع كل «محاولة» جديدة، أكثر من الواقع. فبالنسبة إليه يكمن التحدي في فك ألغاز تلك «اللعبة الهندسية أو اللعبة الفكرية، بغية إرساء التوازن المنشود بين الكتل المختلفة التي تجتمع لتشكل الوجه. فتطويع الخطوط ليس أمرا سهلا، إنما ليس صعب التنفيذ متى تصوّرت الشكل. والتوازن هو السمة الأهم لأنه حين نركّز لبلوغه في لوحة وكأننا بشكل غير مباشر نعمل على التوازن في داخلنا»، كما يقول لـ«الشرق الأوسط». ويوضح: «ركّزت على رسم الإنسان لأنه هو ما يهمني. هناك ملايين البشر ولا أحد وجهه مطابق للآخر تماما. وسرّ الاختلاف بين الوجوه لا يستدعي أكثر من تبديل صغير في الملامح. من هنا صار الإنسان هاجسي بملامحه وتفاصيله».

هذا الهاجس لم يقتصر على اللوحات بل انتقل إلى المنحوتات التي تبلغ نحو ثلاثين. بعضها أسود وبعضها ملوّن. وهذه تشغل الأطفال الذين يتجوّلون مع ذويهم في أرجاء المعرض، يتحدثون عنها وإليها. يتحلّقون حولها، يحدّقون إليها وينهمكون في تفحّص أشكالها وقاماتها وألوانها المرحة... حتى إن خوري اضطر لإضافة اللمسات الأخيرة مرارا وتكرارا قبل نقلها من بيته إلى المعرض لفرط ما أحبّتها ابنتاه الصغيرتان و«خرّبتاها».