الفرنسيات نلن حق الانتخاب.. في الجزائر

بعد أن هددن بكشف النواب الذين يخونون زوجاتهم

صورة ارشيفية من بداية القرن الماضي لمظاهرات نسائية تطالب بالمساواة في فرنسا («الشرق الأوسط»)
TT

إنها حكاية يبقى من المفيد التذكير بها، لا سيما في اليوم العالمي للمرأة. فحين تنافست سيغولين روايال على رئاسة الجمهورية الفرنسية مع ساركوزي، وكانت أول امرأة مرشحة تصل إلى الدورة الانتخابية الثانية، فإنها كانت تدرك أن الطريق الذي أوصلها إلى هذه النقطة المتقدمة معبد بالكثير من جهود نساء ناضلن لكي تنال المرأة حقوقها السياسية. مع هذا، يعتبر الأوروبيون أن فرنسا متأخرة في ميدان حقوق المرأة رغم أنها دولة رائدة في حقوق الإنسان. فالفرنسية لم تأخذ حقها في الترشيح والانتخاب إلا في عام 1944، أي بعد أن أقرت هذا الحق دول أوروبية كثيرة.

بدأت المسيرة النسائية الفرنسية مع أوائل القرن الماضي. ففي المعرض الكوني الكبير الذي أقيم في باريس عام 1900، كانت هناك زاوية تجمعت فيها نصيرات حقوق المرأة وعرضن للزوار صورا ووثائق وإحصائيات تشير إلى أن هناك غبنا يقع على النساء لمجرد أنهن من الجنس الآخر.

كانت أولئك السيدات يحلمن بأن يكون القرن العشرون عصرا لتحرر المرأة. ولم يكن أحد قادرا على منعهن من الحلم. لقد رحن يتداولن لفظة جديدة ويتباهين بها، هي «فمنيست»، وكانت صفة تطلق على الناشطات في المطالبة بالحقوق، دون بلوغ مرحلة الحديث عن المساواة مع الرجل. والحقيقة أن تلك التسمية لم تكن جديدة تماما فقد وردت، للمرة الأولى، على لسان الناشطة هيربيرتين أوكلير عام 1882 وذلك في مقال نشرته في صحيفتها التي كانت تحمل اسم «المواطِنة» بكسر الطاء. لم يكن يقبل المجتمع لتلك المفردة. فالمحافظون كانوا يشجعون النساء على الانخراط في العمل الاجتماعي الخيري لصالح الطبقات الفقيرة. أما النساء المتحررات من التقاليد القديمة فكن يطالبن بدخول المرأة إلى كافة ميادين الحياة المدنية وبمساواتها مع الرجل. أما المتدينون وأتباع الكنيسة الكاثوليكية فقد وافقوا على ذلك النشاط النسائي بشرط أن تكون الحقوق الجديدة مترافقة مع «الواجبات التاريخية» للمرأة، أي أن تفي أولا بحق بيتها وزوجها وأطفالها، وإذا بقي لها وقت فلا بأس من التطوع في العمل الخيري.

ثم مضت السنوات الأولى من القرن العشرين وكثرت المبادرات النسائية، مثل صدور صحيفة جديدة، قبل الحرب العالمية الأولى، أسستها الممثلة مرغريت دوران. وكانت دوران تكتب عمودا في جريدة «الفيغارو» قبل أن تطلق صحيفة كل العاملات فيها من النساء، في التحرير والإدارة والطباعة وحتى التوزيع. وقد سخر بعضهم من تلك الصحيفة وأطلقوا عليها اسم «أخبار التنورة». ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، كانت الجمعيات النسائية قد بدأت في الظهور والتكاثر بحيث بلغ عددها الستين قبل قيام الحرب. وارتأت الناشطات أن الاتحاد في مؤسسة كبيرة أفضل من التشتت في منظمات صغيرة. وهكذا ولد «المجلس الوطني للنساء الفرنسيات» عام 1901. وأصبح عضوا في المجلس العالمي للنساء الذي كان قد تأسس في الولايات المتحدة الأميركية منذ 1888. ومع حلول 1920 كانت 160 جمعية فرنسية قد انضمت إلى المجلس الذي بلغ عدد المنتسبات إليه 150 سيدة وفتاة.

في عام 1930 استقبل رئيس الجمهورية ريمون بوانكاريه، شخصيا، وفدا من المؤتمر العالمي الخامس للنساء، زاره في قصر «الإليزيه». وكان المؤتمر قد انعقد للمطالبة بأهداف محددة: المساواة في الأجور، الحق في الدراسة العليا، إعادة النظر في القانون المدني وتسهيل إجراءات الطلاق، إلغاء الدعارة المرخص بها، وإعطاء المرأة حقوقها السياسية.

ركزت النساء على المطلب الأخير لأنهن كن يشعرن بأنه المقدمة للحصول على كافة الحقوق الأخرى. وقد شجعهن أن تولد في برلين، عاصمة ألمانيا المجاورة، حركة تحت اسم «الاتحاد الدولي لإقرار حق الانتخاب للنساء». ورأى ذلك الاتحاد النور عام 1914. وبعد خمس سنوات أنشأت الفرنسيات اتحادا مماثلا جمع 12 ألف امرأة. وبفضل أولئك النسوة فتحت بعض الأحزاب السياسية أبوابها لهن، وأولها الحزب الراديكالي.

خلال تلك الفترة المبكرة لم تكن هناك مطالب جريئة واضحة من نوع الحق في موانع الحمل أو في الإجهاض. بل وقفت النساء مع القانون الذي يمنع استيراد وسائل منع الحمل، ومع القانون الذي يشدد العقوبة على الإجهاض. كما أن غالبيتهن استنكرن الرواية التي أصدرها الكاتب فكتور مرغريت، عام 1922، لأن بطلتها تعيش حياتها الخاصة بحرية تامة.

كان هدف النسويات المعلن إشاعة «أخلاق موحدة للجنسين». وللوصول إلى غاياتهن، راحت النسويات يصدرن العرائض ويشاركن في المؤتمرات ويوزعن المنشورات الداعية إلى حقوق المرأة. وطبعت النساء، في ذكرى إعلان حقوق الإنسان، طابعا بريديا غير رسمي مشابها للطابع الذي أصدرته الدولة، بالمناسبة نفسها، وعليه صورة رجل يرفع بيده شرعة حقوق الإنسان. وكان الرجل، في الطابع النسائي، يحمل شرعة حقوق المرأة. البريطانيات كن قد نلن حق الانتخاب، الأمر الذي زاد من حنق الفرنسيات اللواتي رحن يبتكرن وسائل عجيبة للفت الأنظار إلى مطالبهن. لقد تسللت سيدتان معروفتان في مجال النشاط النسوي إلى جلسة للبرلمان وعرقلن سيرها للمطالبة بإيجاد مكان لهن بين نواب الأمة. وبموازاة ذلك، كن يبحثن عن منفذ لهن حتى في أصغر الممارسات الديمقراطية. فقد سعين لإدراج أسمائهن في قوائم الانتخابات البلدية عام 1910، لكن المشرفين على فرز الأصوات اعتبروا كل ورقة تحمل اسما نسائيا ورقة ملغاة. وفي عام 1914، دعت إحدى الصحف اليومية إلى إجراء استفتاء حول إعطاء المرأة حق الانتخاب. وهبت نصف مليون امرأة للمشاركة في الاستفتاء، لعل وعسى... ولما جرت الانتخابات البلدية عام 1925، تقدمت إليها 80 امرأة، وفازت بينهن عشر سيدات في باريس، لكن مجلس الدولة أبطل تلك النتيجة لأن القانون لا يقرها ولا يعترف بحق المرأة في الترشيح للمجالس البلدية. وطبعا، فقد أقلق هذا النشاط الحياة السياسية، وراح السياسيون يستغلون القضية من خلال الادعاء بأنهم معها، كما راحت النقابات تدعو العمال إلى الانضمام إليها تحت حجة أنها تدافع عن حقوق العاملات، بينما كانت، في الواقع تهمل تلك الحقوق.

بدأت مشاريع أولية لقانون يحقق ذلك الهدف تدور في أوساط السياسيين وأعضاء البرلمان. وكان هناك نواب من اليسار واليمين يؤيدون المطلب. لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى قطع السبيل على تلك المحاولات دون أن يكسر شوكة الحركة التي كانت في عز انطلاقها.

ومع الحرب أعلنت النساء أنهن سيضعن جانبا أي مطلب ثانوي لكي يكرسن كل جهودهن للمعركة الكبرى، أي دعم الوطن. لكن هذا الموقف لم يلق أي مكافأة بعد انتهاء الحرب وانتصار فرنسا، في حين أن دولا أوروبية أخرى كافأت مواطناتها على مواقفهن المشرفة وتضحياتهن في الحرب.

أعطت بريطانيا حق الانتخاب عام 1918 على أن تكون فوق سن الثلاثين. وتبعتها ألمانيا عام 1919، والولايات المتحدة عام 1920. هذا مع العلم أن ولاية وايومينغ الأميركية كانت قد سمحت للنساء بالانتخاب منذ 1869. أما في فرنسا فقد رفض مجلس الشيوخ، عام 1922، مناقشة القانون الجديد رغم أن الجمعية العامة (البرلمان) كانت قد أيدته قبل ذلك بثلاث سنوات، حين صوت 344 نائبا لصالح مشروع القانون وعارضه 97 عضوا فقط.

قامت قائمة النساء وقررن أن يلجأن إلى كل الوسائل لبلوغ الهدف. وكن يحضرن بكثافة إلى التجمعات السياسية وإلى الحملات الانتخابية ويشاركن في الجدل البرلماني... وكانت الصحف تنقل أخبار ذلك النشاط المحموم أولا بأول.

صار مجلس الشيوخ هو العدو رقم واحد للمرأة. فهو قد رفض مشروع القانون ثانية عام 1932، ثم كرر الرفض عام 1935، وعام 1936. وكانت المناضلات يذهبن إلى قاعة المجلس ويربطن أنفسهن بالسلاسل إلى المقاعد لكي يمنعن الحراس من طردهن خارج القاعة. كما كن يعتصمن عند أسوار المجلس ولا يفوتن مناسبة لتعطيل الجلسات. بل إنهن هددن بكشف أسماء النواب الذين يخونون زوجاتهم أو يترددون على بيوت الدعارة.

وكان من رأي «العقلاء» تخليص قضية حقوق المرأة من أيدي النسويات وتسليمها إلى سيدات لم يعرف عنهن الاندفاع الأهوج. وهذا هو الخط الأساسي الذي كان قد تبناه، عام 1907، المؤتمر الدولي للنساء الاشتراكيات الذي عقد في مدينة شتوتغارت الألمانية، إذ رأت المجتمعات أن ظاهرة «الفمنيست» هي تقليعة برجوازية لتسلية النساء المترفات لا تتناسب وكدح الطبقة العاملة. وذلك المؤتمر هو الذي أقر تقليد الاحتفال بالثامن من آذار (مارس) عيدا عالميا للنساء.

طبق الحزب الشيوعي الفرنسي الفكرة الداعية إلى تخليص قضية المرأة من أيدي النسويات، وذلك في المؤتمر الذي عقده عام 1920 وشكل فيه فرعا نسائيا انتمت إليه النساء اليساريات. لكن «شهر العسل» ذاك لم يدم طويلا. فقد اكتشفت النساء المنتميات إلى الحزب أنه تحول إلى فرع لموسكو وأن لا مكان لهن فيه. وفتحت أحزاب أخرى فروعا نسائية، كالحزب الراديكالي، والحزب الديمقراطي الشعبي، وأغرت تلك الأحزاب النساء بالانضمام إليها. كما نشط المتدينون الكاثوليك في رص صفوف نسائهن للالتفاف على تقدم النسويات. لكن البابا بنوا الخامس عشر كان قد أخذ موقفا إيجابيا لصالح المرأة عندما أعلن أن الأمهات يمثلن، بشكل طبيعي، الأطفال وأعمال الخير. وفي عام 1939 انضمت مائة ألف امرأة فرنسية إلى «الاتحاد الوطني لتصويت النساء» الذي أسسته مدام لوفريه شوتار، وهي سيدة متدينة دعت إلى «حقوق عاقلة» تدافع عن التماسك التقليدي للعائلة حيث يبقى الزوج هو سيد الأسرة.

ثم تباطأت الحركة بسبب الأزمة الاقتصادية التي ضربت فرنسا أوائل الثلاثينات. وكان الجميع يطالب المرأة بأن تبقى في البيت لكي تفسح في فرص العمل للرجال. لكن مكاسب لا بأس بها كانت قد تحققت للمرأة الفرنسية حتى ذلك التاريخ. لقد فتحت أمامها ممارسة المحاماة منذ عام 1899، وأقر لها القانون بحق الاحتفاظ بمرتبها وإنفاقه حسب رغبتها منذ عام 1907. كما أن حصول النساء على حق التصويت في انتخابات غرفة التجارة أدى إلى حصولهن على الترشيح فيها وفي غرفة الزراعة أيضا، وكذلك في محاكم العمل، وفي مجالس إدارة النقابات. وفي عام 1919 أنشئت شهادة بكالوريا نسائية، وفي عام 1924 صارت هذه الشهادة مساوية لتلك التي يحملها الطالب.

وكان من حق المعلمات، منذ عشرينات القرن الماضي، الحصول على راتب مساو لزملائهن المعلمين. وهو ما حصلت العاملات في مكاتب البريد (وهن بالآلاف)، بعد عقدين من الزمن. وفي عام 1938 حصل تطور مهم إذ كسبت المرأة المتزوجة حقها كمواطن كامل الأهلية أمام القانون المدني بعد أن كانت تعامل كأنها «قاصر» تخضع لسلطة الزوج في كافة التعاملات المالية والمدنية. لكن هذا التطور لم يحل المشكلة، لأن المرأة ظلت قاصرا كمواطنة طالما أنها لا تشارك في الانتخابات.

وكان لا بد من انتظار نهاية الحرب العالمية الثانية لكي تتجدد المطالبة بالحقوق السياسية. وجاءت البشرى مع صدور المادة 17 في قانون صدر في الحادي والعشرين من نيسان (أبريل) عام 1944 ووقعه الجنرال ديغول بعد أن صوتت عليه الجمعية الوطنية (51 صوتا معه و16 صوتا ضده). إنه القانون الذي أعطى حق التصويت للنساء. والجدير بالذكر أن الجمعية انعقدت في الجزائر لأن فرنسا كانت، بعد، تحت الاحتلال النازي. ولم يتم الأمر بسهولة فقد استمرت المناورات حتى اللحظة الأخيرة، وطالب بعضهم بأن يكون الأمر مشروطا بإجراء الانتخابات قبل عودة أسرى الحرب، بحجة أن هؤلاء سيصابون بالصدمة وهم يرون النساء يتوجهن إلى صناديق الاقتراع.

شاركت الفرنسيات في التصويت، للمرة الأولى، في الانتخابات البلدية التي جرت في ربيع 1949، وحصلت نساء عديدات على مقاعد في المجالس المحلية، وكانت غالبيتهن ممن شاركن في المقاومة ضد الاحتلال، أثناء الحرب. وتقدمت الأمور بسرعة، بعد ذلك، حيث أتيحت للمرأة المناصب القضائية وتحسنت معدلات المساواة في الأجور وجرى تنظيم مهنة الدعارة وتحديد انتشارها. ومع صدور دستور عام 1946 تنفست النساء الفرنسيات الصعداء لأنه نص على: «يضمن القانون للمرأة، وفي كافة المجالات، حقوقا مساوية لحقوق الرجل». صارت النساء نائبات وعضوات مجلس شيوخ ووزيرات وسفيرات. ووصلت إديت كريسون إلى رئاسة الوزارة. وخلال العقود الماضية ترشحت أكثر من فرنسية للانتخابات الرئاسية، لكن أيا منهن لم تبلغ الدورة الثانية إلى أن فعلتها سيغولين روايال، في 2007 لكنها فشلت رغم حصولها على 17 مليون صوت. وهي تستعد لمعاودة الكرة.