ارتفاع الطلب على التنور التقليدي في شمال العراق

رغم توفر الأجهزة المنزلية الكهربائية

يتراوح سعر التنور بين 80 و120 ألف دينار عراقي (تصوير: كامران نجم)
TT

اشتهرت مدينة كركوك، ومنذ زمن قديم، بصناعة الفخاريات كالأواني والجرار والسنادين والمزهريات والتنانير والحباب (بكسر الحاء)، وغيرها من الأدوات المنزلية، التي كانت من متطلبات الحياة اليومية بهذه المدينة.

وازدهرت هذه الصناعة اليدوية المعتمدة في مادتها الأولية على الصلصال، الذي يتم تهيئته من نوع خاص من التراب الأحمر الموجود بكثرة على مشارف كركوك. وكانت الحباب أهم وأبرز منتجات هذه الحرفة، التي اشتهر بها، حتى أواسط السبعينات من القرن الماضي، عدد من الذين ظلت أسماؤهم تتردد على الألسن في المدينة، كلما جرى الحديث عن صناعة الفخاريات، مثل خضر الكوزجي، وغيره ممن كان لهم شأن كبير في توفير مستلزمات البيت من أدوات فخارية ضرورية في ذلك العهد، وفي مقدمتها «الحب»، وهو عبارة عن جرة فخارية مخروطة الشكل، كانت بمثابة الثلاجة أو البراد في ذاك الوقت، وكانت البيوت تعتمد عليه في تبريد وتنقية المياه في فصل الصيف، إلى جانب الجرة الصغيرة، التي كانت بمثابة «الترمس» الحالي، وهي أشبه بالمزهرية، وذات رقبة طويلة وجوف متوسط وذات مقبضين على جانبي الرقبة لتسهيل حملها. وكانت الأسر تستعين بها أثناء الليل صيفا لتبريد المياه عبر تغليفها بقطعة من القماش السميك، وبلها ثم تركها في الهواء الطلق لتبريد ما بداخلها من مياه.

وما برحت هذه الصناعة اليدوية رائجة في كركوك وضواحيها، ذات الخليط السكاني الكردي والتركماني، مثل دوزخورماتو وتازة وداقوق والتون كوبري وغيرها، إذ تكثر فيها محلات بيع الفخاريات، التي صارت تركز على السنادين والمزهريات والطبلات والتحفيات، عوضا عن الحباب وجرار المياه، التي حلت محلها الثلاجات والبرادات الكهربائية لحديثة.

أما أسعار المقتنيات الفخارية فإنها تتراوح بين 5 – 25 ألف دينار عراقي، أي ما يعادل 5- 20 دولارا تقريبا حسب نوعية وحجم القطعة الفخارية.

وبالرغم من التطور الحاصل في مجال الأجهزة المنزلية الكهربائية، وتحديدا في مجال صناعة أفران الخبز، إلا أن الغالبية المطلقة من أفران الخبز ليست في كركوك وحدها، بل في عموم محافظات العراق، لا تزال تعتمد على التنور المصنوع من الفخار، لجملة من الأسباب، أهمها سلامة الخبز المنتج من أي ملوثات، ورخص أسعار التنانير وسهولة نقلها ونصبها وقلة حاجتها إلى الوقود، وعدم حاجتها إلى فنيين ملمين بتشغيلها كما في الأفران الكهربائية أو الغازية.

لذا تجد أن الإقبال واسعا وكبيرا على اقتناء التنانير الفخارية، التي تستعين بها الكثير من النساء العراقيات في بيوتهن لصناعة الخبز. ولو تجولت في كركوك وحدها، لا سيما في الأحياء الكردية أو التركمانية، سترى العديد من مواقع صناعة تنانير الفخار، التي يعمل فيها عدد غير قليل من الحرفيين والصبية وهم في الغالب أقارب بعضهم.

وطوال ساعات النهار حيث ينهمك بعضهم في إجراء خلطات الصلصال، التي تتهيأ في حلقات واسعة من التراب الأحمر، الذي يسكب عليه المياه تدريجيا مع السحق المستمر بالأرجل حتى يتحول إلى عجينة متماسكة وطرية، فيما يتولى آخرون صنع قاعة التنور، التي تترك ليوم أو يومين تحت الشمس قبل استكمال بقية أجزائها، من قبل الذين يتقنون هذه الحرفة اليدوية ويمارسونها بدقة متناهية.

ويقول كنعان، طالب 38 عاما، وهو كردي من حي الشورجة بكركوك، ويعمل في هذا المجال منذ أكثر من عشر سنوات، إنه تعلم هذه الحرفة من السابقين الذين عمل تحت أيديهم، ولكنّ مساعديه الذين يعملون معه الآن ورثوا المهنة من آبائهم وأجدادهم. ويضيف طالب في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن مهنته مربحة، وأحيانا يبيع نحو 20 زوجا من التنانير في الأسبوع الواحد. وبخصوص كيفية صناعة التنور الفخاري يقول: «نستخدم في صناعة التنور ترابا أحمر خاصا يوجد بكثرة على المشارف الشمالية لكركوك، حيث ينقله لنا المتعهد بشاحنات خاصة، فنقوم بدورنا على تصفيته أولا من الشوائب باستخدام غربال خاص، وبعد ذلك نقوم بإجراء الخلطة عبر سكب المياه تدريجيا على كومة التراب مع السحق المستمر حتى يتحول إلى عجين طري ومتماسك، ومن ثم نترك العجينة لساعتين أو أكثر في أوان كبيرة مع إضافة مزيد من المياه عليها حتى تنقع العجينة تماما، بعدها نضيف إليها التبن مع الاستمرار في السحق بالأقدام حتى يتجانس الخليط كليا، فيترك ليوم أو يومين حتى يتخمر جيدا، وذلك لضمان تماسك العجين وعدم تفككه أثناء صناعة التنور» وتجري صناعة التنور على ثلاث مراحل، الأولى وتشمل تركيب أو صناعة قاعدة التنور وتركها تحت الشمس حتى تجف، ومن ثم تركيب الجزء الأوسط منه وتركه أيضا حتى يجف، ومن ثم يكمل ما يتبقى منه، وهذه المراحل تستغرق وقتا أطول في فصل الشتاء، لأن الأجزاء تبقى طرية ومبللة ولا تجف بسرعة كما في الصيف، حيث تستغرق وقتا قليلا نظرا لحرارة الجو.

وأشار طالب إلى أن صناعة 12 تنورا تستغرق في الشتاء نحو 40 يوما من العمل المتواصل لثمان ساعات يوميا، ويقول: «زبائننا يأتون من كل أرجاء العراق ما عدا محافظة البصرة البعيدة عنا جدا، ونسوق منتجاتنا إلى كل المدن العراقية، وخصوصا المدن القريبة مثل تكريت والموصل وأربيل والسليمانية ودهوك وبغداد وديالى، بواسطة شاحنات كبيرة تنقل المنتج إلى أصحاب المحلات التي تبيع الفخاريات في تلك المدن، ويتراوح سعر التنور الواحد حسب الحجم، إذ هناك التنور الصغير والمتوسط والكبير بين 80 – 120 ألف دينار أي ما يعادل 70 – 100 دولار أميركي».

ويؤكد طالب بأنه يصنع من الفخار أيضا صناديق خلايا النحل ومناقل شواء اللحم والسمك وغيرها من الأدوات المستخدمة في المنازل والمطاعم. ويقول بأن التراب والعجين المستخدم لصناعة هذه الأدوات يختلفان كليا عن تلك المستخدمة في صناعة الأواني والمزهريات والحباب والجرار، مثلما تختلف آلية الصناعة تماما في كلتا الحالتين، إذ يتم وضع الأواني والمزهريات والحباب في فرن ذي نار حامية حتى تصل المنتجات إلى حد الاحمرار، ومن ثم تسوق بعكس صناعة التنانير، التي تطفئ بحرارة الشمس لتجفيف المنتجات.