كوبري أبو العلا.. ملتقى العشاق على نيل القاهرة تحول إلى كوم خردة

بلغت تكلفة تفكيكه 4 ملايين جنيه ولم يستقر على مشروع لاستغلاله

أشلاء كوبري أبو العلا تنعى حظها على شاطئ النيل («الشرق الأوسط»)
TT

كوبري أبو العلا كان من أجمل كباري مصر، تم بناؤه عام 1908- 1912 في عهد الخديوي عباس حلمي، وتم تشييده من الصلب ليربط بين حي الزمالك الراقي وحي بولاق أبو العلا بزخمه الشعبي. وفي عام 1998 تم تفكيكه لبناء كوبري جديد، وانطلقت الوعود وقتها بشأن الكوبري القديم وضرورة المحافظة على قيمته التراثية والجمالية، وأنه سيعاد تركيبه وترميمه ليصبح بمثابة متحف ومرسم مفتوح للفنانين على صفحة النيل، مثل الحي اللاتيني بباريس. لكن وبعد مرور نحو 11 عاما ما زال كوبري أبو العلا ينعى حظه وتغريبته، بعد أن تحول إلى كوم من الخردة تحت كوبري الساحل بحي روض الفرج.

انحاز كوبري أبو العلا منذ إنشائه إلى فقراء حي أبو العلا العريق، فاكتسب اسمه من اسم شيخهم «الشيخ أبو العلا» والذي سمي الحي باسمه، ولا يزال ضريح الشيخ أبو العلا ومسجده أحد المزارات الدينية والشواهد التاريخية بالحي. ورد الكوبري بهذا الانحياز اعتبارا معنويا لأهالي حي أبو العلا الفقراء في مقابل أهالي حي الزمالك الأغنياء عند الطرف الآخر من الكوبري. تكلفت عملية فك الكوبري نحو أربعة ملايين جنيه، ومن أهم من وعدوا بأنه سيكون مرسما مفتوحا للفنانين فاروق حسني وزير الثقافة.

سألته: أين ذهبت هذه الوعود والأماني؟ وما مصير الكوبري؟

فأجاب قائلا: هذا كان حلمي وفكرتي أنا، فبدلا من أن يكون الكوبري متقاطعا مع النيل كما كان بوضعيته القديمة، يكون موازيا له مثل شرفة تطل عليه. والحقيقة كنا بدأنا وعملنا تصورا، فجاء الدكتور محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان السابق وطلب من الرئيس مبارك أن يقوم هو بتنفيذه، وقام بتنفيذ رسومات، وعدلت وزارة الثقافة هذه الرسومات. كنا سنبدأ بالفعل في العمل، لكن خرج الأمر من أيدينا بشكل أو بآخر. وأنا قرأت في الصحف أن محافظة القاهرة أعلنت عن مسابقة لإعادة تصميم الكوبري، وأنا أقول عندنا التصميم الذي قامت به وزارة الإسكان ونحن عدلنا فيه، وأريد أن أقول إن الكوبري ليس ملك الوزارة، بل ملك محافظة القاهرة، وهذا ما حدث.

> هل ترى بالإمكان ضخ الحياة مرة أخرى للكوبري؟

- ممكن جدا، لكني أنصح المحافظ أن التصميم الذي وافقنا عليه موجود، ولن يأتي بأحسن منه.

وفي اتصال تليفوني مع الدكتور عبد العظيم وزير محافظ القاهرة أكد على حرص المحافظة على الكوبري، وأنها ستعيد بناءه وستستغله بالشكل الملائم، وسيكون مرسما مفتوحا. وأوضح أن هناك 13 مكتبا هندسيا تقدم للمسابقة التي أعلنت أخيرا، وسيكون الفيصل للجنة التحكيم المكونة من خبراء وأساتذة هندسة.

قلت للمحافظ إن الوزير فاروق حسني يقول إن الوزارة لديها التصميمات جاهزة ولن تجد المحافظة أفضل منها، فأجاب قائلا: لتتقدم كل الجهات للمسابقة، حتى لو كانت وزارة.

لكن هل تم تخصيص مكان جديد للكوبري؟ وأين سيقع؟ وهل تم رصد ميزانية لذلك بالفعل؟

اللواء صدقي عبد السلام رئيس حي بولاق أبو العلا يؤكد أنه تم بالفعل تخصيص مكان الكوبري، وأنه سيكون أمام مركز التجارة العالمي، والمكان مغطى الآن بالصاج وستشرف عليه وعلى أنشطته - بعد البناء - وزارة الثقافة. كما شدد اللواء صدقي على أهمية دور الإعلام في تناوله لهذا الموضوع، فقد يحفز هذا رئيس الوزراء ووزير المالية لرصد ميزانية لإعادة بناء الكوبري. وأضاف أن الكوبري مكون من عشرة أجزاء، وعليه بالفعل حراسة من القوات المسلحة لكونه تراثا وله قيمة تاريخية.

قامت شركة «المقاولون العرب» بفك الكوبري القديم وبناء كوبري الزمالك الجديد، لكن لماذا لم يستمر عملها لإعادة تركيب الكوبري القديم؟ فهي الأولى، بخاصة بعد أن خبرت أسراره الهندسية والفنية، وبدلا من كل هذه السنوات التي أضعفت الكوبري وأثرت بالسلب على مكوناته.

المهندس إبراهيم محلب رئيس إدارة الكباري بشركة «المقاولون العرب» يوضح ذلك بقوله: «هذا ليس قرار (المقاولون العرب)، بل بيد المحافظة، وكان هذا الكلام نحو سنة 2000، وأخيرا عندما أعلنت المحافظة عن مسابقة اشتركنا بها، وما زلنا ننتظر، فهذا الكوبري قيمة بكل المقاييس».

من الشائع في ذاكرة كوبري أبو العلا أن الذي بناه هو المهندس الفرنسي الشهير جوستاف إيفل، وذلك بعد بنائه برج إيفل الشهير بباريس، ويقال إنه انتحر عندما فشل في فتح الكوبري. لكن الدكتور فتحي صالح مدير المركز القومي لتوثيق التراث الحضاري والطبيعي التابع لمكتبة الإسكندرية والموجود بالقرية الذكية لديه حكاية أخرى، فحين سألته: ما موضوع كوبري أبو العلا مع حضرتك؟

ابتسم وأخذ يحكي الحكاية. يقول الدكتور صالح: كنت أعمل مستشارا ثقافيا بباريس، فاتصل بي المهندس إبراهيم محلب وقال إنهم يقومون بفك الكوبري، وهناك كلام كثير أن من بنى الكوبري هو جوستاف إيفل، والحقيقة غير معروفة، وقال لي: «ابحث لنا الأمر»، فقلت له بشكل عام ليس هو لأن إيفل وُلد عام 1832 ومات 1923، أي أنه عاش واحدا وتسعين عاما، والكوبري تم بناؤه عام 1912، أي أن عمره وقت بناء الكوبري كان نحو الثمانين، كيف لمن هو في هذا العمر أن يقوم ببناء كوبري، ثم عندما يفشل في جزئية تتعلق بعمله يقوم بالانتحار؟ إن من يفعل ذلك شاب صغير! وعلى كل حال طلبت منه أي شيء أستطيع البدء منه، فرد المهندس إبراهيم قائلا إنهم وجدوا على أحد قواعد الكوبري لوحة نحاسية مكتوب عليها «فيف ليل» «Fives Lille»، وليل مدينة فرنسية تقع شمال باريس، وكان لي إحدى الصديقات تعمل في جامعة ليل، وعرضت عليها الأمر وعرضته هي بدورها على سكرتيرتها، التي قالت إنها وجدت أرشيفا عن كوبري اسمه «Beau Lac»، فقلت لها إنه هو، وذهبت لمشاهدة الوثائق لكن لم أجد في ليل وثائق عن الكوبري، بل عن شركة «فيف ليل» نفسها، وهي شركة كانت موجودة في مدينة ليل، وكانت تعمل في أعمال الحديد والمنشآت الحديدية، وفي الخمسينات بدأت أعمال الحديد تتضاءل في العالم كله فتم إغلاق الشركة، لكن الأرشيف الهندسي المطلوب موجود في مدينة ليون Lion الفرنسية.

يتابع الدكتور صالح: هذا الأرشيف من أهم الأرشيفات الكبرى في فرنسا، وكانت هناك باحثة في علم المصريات اسمها جيهان زكي، ساعدتني كثيرا ومهدت لي الأمر، ومبنى الأرشيف يقع في حواري ضيقة في منطقة جبلية تمر بها السيارة بصعوبة، فذهبنا وأخرجوا لنا لوحات قديمة جدا لكوبري أبو العلا وحده، ونحو 300 من 700 لوحة هندسية لكَبارٍ أخرى بمصر. اللوحات كبيرة الحجم، نحو متر في متر، مربوطة بدوبار. وقالت لي الدكتورة جيهان ونحن نفك الأربطة، إنها تشعر كما لو أنها تفك أربطة مومياوات، فهي لحظة اكتشاف أثري. وعلقت أنا بأنها «مقبرة توت عنخ آمون الهندسية»، واللوحات عليها ختم الشركة المنفذة وموقّع عليها من المسؤولين بمصر في ذلك الوقت، مثل إسماعيل باشا سري وزير الأشغال، وتوقيع وكيل وزارة الأشغال، وتوقيع رئيس هيئة الطرق والكباري، وهكذا. ووجدنا لوحات لستة كَبارٍ في مصر، مثل كوبري الزمالك، وكوبري الجلاء، وكوبري السكة الحديد بإمبابة، وكوبري المنصورة، ومشروع كوبري قصر النيل. وعندما رجعت إلى باريس كلمت مهندس إبراهيم محلب فقال: «حاول أن تحصل على نسخة من الأرشيف»، فاخترت الشركة الأكثر تقدما من ثلاث شركات متخصصة في هذا المجال، وقمنا بتصوير الأرشيف بشكل ورقي بحجم اللوحات الأصلية، وأيضا على ورق «كلك» ليعيش أكثر، وتم عمل ميكروفيلم له و«سي دي» كذلك. واستخلصنا من ذلك أن شركة فيف ليل هي المنفذة، ولقد استعانت من الباطن بشركة أخرى من شيكاغو اسمها «شيرزر» لتنفيذ الجزء المتحرك، وإيفل ليس له علاقة بالكوبري، ولم ينتحر، بل مات على فراشه كشيخ مسنّ.

> لكن هل انتحر من قام بصنع الجزء المتحرك في الكوبري؟

- إطلاقا، فهذه قصة ليس لها وجود. والكوبري كان يفتح ولدينا صوره وهو مفتوح.

> وهل لجوستاف إيفل أعمال أخرى في مصر؟ - ساعدني أحد الأشخاص باطلاعه على أرشيف شركة إيفل، التي تعمل إلى الآن، كما اتصل بي حفيد إيفل وتم التأكيد على أن إيفل قام بإنشاء كوبري حديقة الجيزة، أو حديقة حيوان الجيزة، التي كانت جزءا من حديقة إسماعيل باشا، وقام ببناء الكوبري بها قبل أن يخصص جزءا من قصره لتصبح حديقة حيوان. وهذا هو العمل الوحيد الذي قام به إيفل في القاهرة، ونفذ أيضا كوبري في نجع حمادي ما زال قائما حتى الآن، وعندي صوره. وأنشأ أيضا كوبري في بور سعيد، بحثنا عنه لكنه ليس قائما الآن. وأريد أن أضيف شيئا مهما جدا، هو أننا يجب أن نعمل على الحفاظ على ذاكرة مصر الهندسية، ولقد بدأنا بهذا الأرشيف الهندسي. حتى «المقاولون العرب» لم يكن عندهم أرشيف لأعمالهم، وهم أنفسهم قالوا كثيرا ما نبحث عن لوحة لكوبري أقمناه في الستينات مثلا فلا نجد بسبب عدم وجود نظام تخزين، وإن اهتموا مؤخرا بذلك. ونحن في المركز نسجل الجوانب المختلفة للتراث المصري باستخدام التكنولوجيا الحديثة، وعندنا مصادر مهمة جدا.