الأراجوز.. ينعى حظه ويرفع شعار «لا للرحيل»

بعد أن زاحمته متاهة الإنترنت وشاشات «الفيديو جيم»

الأراجواز.. عرفه قدماء اليونانيين، ومن ثم أوروبا في نهاية القرن الـ 16، وأشار إليه عدد من مشاهير الكتاب والفنانين والشعراء (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

هل ما زال خيالك عامرا بالبهجة وحكايا الصغار، ومشاغبات الأبطال الملونين.. هل تذكر تلك الأيدي الماهرة التي كانت تحملك معها إلى عوالم الفكاهة والمرح والحكمة في آن واحد، لتحلق بها خيالاتك عند مشاجرات الأراجوز وزوجته وابنه، أو في تهكمات الشاويش، والشيخ، والغلبان؟! حكايات الأراجوز لم تنته بعد، فـ«ما زال لدينا ما يستطيع أن يعبر عنا». وهو الشعار الذي رفعته فرقة «ومضة» طيلة 8 سنوات كفرقة متخصصة في فن عرائس التحريك أو الأراجوز بمصر، لتحمى هذا الفن ذا الموروث الشعبي العريق من الانقراض والتغريب، ولتظل كذلك الفرقة الوحيدة الباقية في مصر التي تسهر أعينها على الأراجوز العجوز وأولاده وعرائسه الأربع عشرة، من أجل أن يظل على قيد الحياة. فمنذ معرفته لأول مرة منذ سبعة قرون في مصر والأراجوز العجوز يصارع للبقاء رافعا شعار (لا للفناء) أمام كل متغيرات البشر والحياة والعصر في وقت واحد (عقليا وتكنولوجيا)!! لكن الصراع اشتد اليوم، في زمن الفضائيات والسماوات المفتوحة! وبالرغم من التاريخ البعيد لنشأة فن الأراجوز في العالم، منذ نحو 70 قرنا، حسبما يقال، فقد عرفه قدماء اليونانيين، ومن ثم أوروبا في نهاية القرن 16، حيث أقبل عليه الجمهور، وأشار إليه عدد من مشاهير الكتاب والفنانين والشعراء، منهم شكسبير، وشوسر، وهايدن، وبن جونسون، لينتشر في العالم كله كموروث شعبي يعبر عن ثقافة وواقع خاص بكل بلد، إلا أن التأكيدات على تاريخ ظهوره في مصر لأول مرة غير متوافرة. فكما يقول د. نبيل بهجت مؤسس فرقة ومضة للأراجوز وخيال الظل، مدير بيت السحيمي الثقافي: «الأراجوز موجود في العديد من دول العالم، فهناك الأراجوز الانجليزي، الايطالي، الفرنسي، البرازيلي، اليوناني وبعض دول حوض البحر المتوسط، إلا أن وجوده الحقيقي في مصر والأقرب للروايات المتداولة، كان من خلال الشخصية التي ابتدعها المصريون للسخرية من بهاء الدين قراقوش، وزير الدولة في عهد صلاح الدين الأيوبي، وهناك جملتان شهيرتان للأراجوز، منذ ذلك الوقت هما: (الفاشوش في حكم قراقوش) و(أنا الأراجوز ابن قراقوش) وما زالتا متداولتين حتى الآن في حكاوي الأراجوز، بل إن ملابس الأراجوز وعصاه الشهيرة وطرطوره المميز هي في الحقيقة كانت أقرب لملابس قراقوش الذي يحكى عنه أنه كان قصيرا وممتلئا ويرتدى ملابس كهذه.

يضيف بهجت: «اعتقاد البعض من أن الفنان الراحل شكوكو هو من قدم الأراجوز في مصر، اعتقاد خاطئ، بل على العكس تماما شكوكو كان من الذكاء أن استفاد هو من شخصية الأراجوز لكي تكسبه شهرة أكبر وقاعدة جماهيرية أوسع، في وقت كانت فيه المتع الترفيهية في مصر قليلة ومن ضمنها حكاوي الأراجوز وعرائسه الملونة» لكن بعض الأقاويل تشير إلى أن نجم الأراجوز بدأ في الأفول والانقراض مع حقبة الثمانينات التي شهدت انتشارا للأفكار الأصولية المتشددة دينيا، انعكست على الفنون بعامة ومن بينها فن الأراجوز. ينفي د. نبيل هذه الأقاويل، مشيرا إلى أنها محاولات مغرضة للصق صورة الإسلام بكل ما هو معاد للفنون بأشكالها، ويدلل علة ذلك من أن شهرة الأراجوز والإقبال الجماهيري الكبير عليه كان في القرى أكثر منه في المدن، ومعروف تماما أن أهالي القرى أكثر تمسكا بالقيم الدينية من سكان المدن تبعا لثقافة المنشأ. وبحسب نبيل فإن عصر الانفتاح شكل فترة الانقراض الحقيقية لفن الأراجوز، حيث تغربت الشخصية المصرية وفقدت الكثير من هويتها وطغى النموذج الاستهلاكي عليها لتصبح أكثر التصاقا بالثقافة الغربية، بما في ذلك المعجم اللغوي للناس الذي هو همزة التواصل فيما بينهم، فكان من الطبيعي أن يتقهقر الأراجوز وفنه إلى الوراء كثيرا.

فرقة «ومضة» بأعضائها الثمانية أصبحت الحارسة لفن الأراجوز، فهي الفرقة الوحيدة التي تقدم عروض الأراجوز للأطفال والكبار معا، واستطاعت بدعم من وزارة الثقافة أن تقيم الملتقى الأول للعروسة الشعبية.

يقول نبيل: الحكايات التي تروى على لسان الأراجوز ليست كلها للأطفال بل العروض المقدمة للصغار والكبار كذلك، وحتى الأطفال لم يعودوا أطفالا، فمن خلال الريموت كنترول يستطيع أن يعرف كل شيء لهذا نحرص تماما على أن نخاطب عقولهم الناضجة مبكرا. مشيرا إلى أن أعضاء الفرقة يجب أن يتميزوا بمواصفات خاصة، في مقدمتها «القدرة على الارتجال والتواصل مع الجمهور المتفاعل فيما يقول، كما يجب أن يكون مثقفا بالقدر الكافي للتعامل مع قضايانا المستجدة ووضع إسقاطات على الأوضاع الحالية».

ويؤكد نبيل على أنه لا ينسى أبدا تلك الفتاة التونسية الصغيرة ذات الثمانية أعوام التي صعدت إليه على المسرح عقب انتهاء أحد عروض الفرقة في تونس لتقول له لقد فهمت تماما ما يعنيه الأراجوز، وأدركت أن الشخصية الأولي هي أميركا، والثانية هي إسرائيل!. نافيا أن يكون هناك رقابة على ما يقدمونه.. «فالضمير هو المحرك الأساسي في العمل وقيمة الفرد والمجتمع هي المضمون، ولم تحدث أي مواجهة مع جهات أمنية أو سياسية أو حتى دينية تجاه ما نقدمه».

وبرغم احتفاظه بشخوصه الأثيرة، فإن الأراجوز يضيف إليها شخوصا أخرى منسجما مع إيقاع العصر والحالة، ومن هذا الشخوص (الشاويش – زوجة الأراجوز البيضاء – زوجة الأراجوز السمراء – الشحات – ابن الأراجوز – العفريت – موشى ديان – العبيط – الشيخ – فنان بالعافية – الأستاذ – الخواجة – الفتوة – كلب السرايا).. تختصر هذه الشخوص الحياة كلها أبعادها الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية في مجموعة من الدمى الخشبية، تحكى وتسخر وترصد واقعا متغيرا ساعة بعد ساعة. وحسبما يقول نبيل :«من المثير للدهشة أننا لم نستوعب أي حالة تغريب لنموذج العروسة الخشبية أو الأراجوز في مصر، على الرغم من مرورنا بعصور طويلة من الاحتلال وبالتالي ظل الأراجوز مصريا خالصا مهموما بقضاياه وقضايا عروبته ولم يحدث له تغريب حتى مع العولمة التي نعيشها اليوم».

ويضيف نبيل «العروض التي نقدمها والحكايات التي نرويها على ألسنة عرائسنا وأراجوزنا هي من صميم التراث الشعبي المصري، يضاف إليه بعض التعليقات والحوارات المرتبطة بالواقع والحال اليوم، لكنها لا تنفصل أبدا عن مفهومنا وموروثنا الشعبي سواء كان من ناحية المحتوى أو الموسيقى أو حتى الحركات والألوان التي يقدمها الأراجوز، ولعل أسماء هذه العروض تنوه عن محتواها مثل (حرامي الشنطة – ملك ولا أراجوز؟ ـ أنا وابن اخويا على التمساح – خالي بالكم – ملاعيب شيحة – أراجوز في الجيش – ليلة سبوع الأراجوز – أراجوز في المزاد ـ أراجوز دوت كوم).

ويشير رئيس فرقة «ومضة» إلى أن العودة إلى الأراجوز كوسيلة تعليم وترفيه ما زالت أمرا صعبا في ظل عالم الانترنت والفيديو جيم والبلاي ستيشن، قائلا: «أدرك تماما حجم المقارنة غير العادلة أمام هذا النوع من الفن، ولكن الحقيقة أنه يجب أن يبقى، فالخيال أمر لا تفعله أزرار (الكي بور)، وعوالم البهجة والمتعة لا تأتي فقط عبر شاشات الانترنت والفضائيات، وبرغم كل هذا الأمور تسير للأفضل وتلقى عروضنا إقبالا رائعا يوما وراء يوم، حيث قدمنا 121 ليلة عرض في الولايات المتحدة الأميركية فقط، فضلا عن عروض في العديد من الدول الأوروبية والعربية وكلها بمجهودات شخصية.