مخرج لبناني يستقبل جمهوره في جوف مقبرة جماعية

«بنفسج» عصام بوخالد.. ممثلاها جثتان شبعتا موتاً

برناديت حديب وسعيد سرحان في مشهد من «بنفسج» (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

تتفكك المرأة التي لا نرى غيرها في الظلام الدامس، وتتشظى قطعة بعد قطعة. النور لا يضيء غير بقعة تواجد هذه الكائنة التي تتنفس بصعوبة، تنخلع قدماها، ثم يقع صدرها وذراعاها، ويسقط معهما الرضيع الذي تحتضنه بين يديها، ولا يبقى منها غير رأس معلقة في الفضاء. وعلى إيقاع هدير قوي، ثمة انفجار ما يدوي في المكان. أشلاء لكائنات تتناثر فجأة، والمرأة التي باتت مطروحة أرضاً تبحث عن قطع جسدها المتناثرة كي تعيد تركيب ما تفتت. هذه ليست المرة الأولى التي يأخذنا فيها المخرج الشاب والموهوب عصام بوخالد إلى عالم الشر والقتل والجريمة. فهو مسكون بهذا الهاجس الذي حكم أجيالا متتابعة في لبنان، كبرت في الحرب، وترعرعت على إيقاع القتل اليومي والانفجارات، ولا تجد غير هذا الألم، تنهل منه في أعمالها الإبداعية.

المرأة الموجودة أمامنا إذن (برناديت حديب) هي ميتة، ونحن في مقبرة. المرأة تحاول جاهدة أن تنتصب واقفة، تبحث عن أعضاء بديلة لتلك التي فقدتها، ثم تبدأ تزحف وقد ركّبت ساقين وذراعين، وأخطأت في تركيب مؤخرة ضخمة فوضعتها من الجهة الأمامية. تنتصب المرأة بصعوبة، ثم تروي حوادث مبعثرة، سوريالية، تحيل إلى واقع يعرفه المتفرجون. ليست بحاجة لأن تستعمل مفردات الحرب والموت، بل هي تبدو وكأنها ساهية عن تلك التسميات الأرضية، في عالم عبثي غامض، ولا يربطها بالأرض العلوية غير خبط أقدام بين الحين والآخر، تنعش الآمال في صدرها، وهي تظنها أقدام ابنها الذي ربما كبر وجاء يبحث عنها.

تتحدث المرأة عن اكتظاظ، وتراكم وضيق تنفس في المكان الذي تقيم فيه. فالموجودون في هذه المقبرة الجماعية كثر، ولا أحد ينتشلهم كما تعف عنهم الكاميرات التي لا يرويها غير مشهد الدم ولونه القاني. وصول مخلوق جديد (سعيد سرحان) إلى المقبرة، يتراوح شكله بين الآدمية والحيوانية يخلق حالة جديدة، فرغم أنه مربوط بحبل يشده إلى السقف، فإنه عدواني ومتحفز يهجم عليها كوحش. هيئة هذا المخلوق، تحيل إلى تاريخه الأرضي. رجل يمشي على أربع، فمه مكموم ورأسه معصوب، يداه ملفوفتان بأربطة سوداء، كلامه مخنوق، وسلوكه شرس. المشادة قوية بين الميتين في هذا العالم السفلي، لكنهما سرعان ما يتصالحان، وهما يرويان كل منهما للآخر، مأساته الأرضية التي ساقته إلى هنا. فقد خطف الرجل وعذب واتهم بالحيوانية، حتى شعر بأن ذنباً ينبت له في مؤخرته، وهي اضطهدت وقهرت حتى باتت لا تريد من كل ما مضى وسيأتي غير ابنها الضائع. كل هذا يحدث على مسرح عارٍ إلا من باب في صدارة الخشبة يفتح على خلفية صغيرة، وبقربه ما يشبه المصطبة التي يستخدمها الممثلان ليعلقا نفسيهما على ما يشبه أرجوحتين يتمددان عليهما ويصبحان في وضع أفقي يحاولان منه استشراف العالم، لكنهما في تلك الوضعية التي تحيلها الإضاءة إلى حالة طيرانية، لا يستحليان شيئاً سوى البصاق على كل ما يريانه. وهي ليست الوضعية التحليقية الوحيدة التي يستخدمها المخرج بوخالد، فالرجل يحاول بمعاونة الحبل الذي يشده إلى أعلى أن يسير على حافة الخشبة جسده طائر إلى الأمام وكأنه يطل على المتفرجين من عل. فيما لعبت الإضاءة (سرمد لويس) دوراً محورياً في العمل، بحيث كانت تأتي من الجوانب حيناً ومن الأعلى حيناً آخر، وتكتفي بإنارة بقع بعينها في أحيان أخرى.

الوجود في مقبرة جماعية على مدار ثلاثة أرباع الساعة، ومع موتى لا يعرفون كيف يلملمون جثثهم وحكاياتهم، كان يحتاج إلى جهد أكبر من المخرج، كي لا يضيق صدر المتفرج، الذي يعي أن حياته لا تختلف كثيراً عن الموتى الذين يشاهدهم حتى يكاد يتماهى معهم. قالت إحدى الحاضرات وهي تغادر القاعة إن ما رأته، على دراماتيكيته، يبقى قاصراً عن سوريالية الواقع نفسه الذي هو أكثر قسوة وعنفاً.

لكن بوخالد العاشق للقصص المصورة، استخدم كل ما أوتي من خيال، ليجعل من مقبرته وكأنها عالم انسلخ عنا في منطقه وشروطه. وهو أمر سبق وشاهدنا ما يشبهه في مسرحيته «أرخبيل» عام 1999.

من هنا كان اللعب على تركيب جسد الممثلة كما لو أنها دمية، أو أنها فقدت روحها وبات بمقدورها أن تعيش بجسد متكسر الأعضاء، مخلع الأجزاء. ومن هنا أيضاً الدخول في كاريكاتورية الحركة. فما جسد المرأة التي أمامنا غير قطع ململمة من قبر، بحيث استعارت رجلا من هنا ويداً من هناك، وصدراً لشخص ثالث. وحين تنظر المرأة إلى نفسها تقول: «هالجسم مش راكب. في شي غلط». برناديت حديب بلياقتها الجسدية، وليونتها الأدائية، لعبت الدور بمهارة، وحين لبست ثوباً من أشلاء، وتدثرت بالأيدي والأرجل التي تدلت منها وأحاطت برأسها كما غطت جوانب جسدها، شعر المتفرج وكأنما فك وتركيب الأعضاء البشرية هو لعبة بازل متاحة للجميع. أما الحياة كما تقول المرأة فهي ميتات لا تنتهي: «انتحرنا، ثم قمنا وانتحرنا» وكأنما الإنسان لا يشبع انتحاراً، حتى إن المرأة تقول للرجل وهو يحاول افتراسها: «بدك تقتلني؟ اقتلني، شو أول مرة بموت؟!». هذا الرجل الذي لا يتوقف عن أدائه البهلواني وقفزاته التي تذكّر بالكلاب والقرود، خاصة حينما يتسلق الحبل ويتعلق في الفضاء. موت بدون دماء، وألم بلا مأساة، كما احتجاج من غير شعارت، هي مسرحية عصام بوخالد الجديدة التي تعرض حتى الثاني عشر من الشهر المقبل في «مسرح مونو». موضوع المسرحية طالع من حواضر البؤس اللبناني، لكنها تستخدم أدوات مبتكرة، ونصاً سورياليا هذيانيا، وملابس وإكسسوارات مجنونة، لتجعل من المقبرة مكاناً صالحاً للفرجة ومواجهة الذات، أمام ميتين لا يحلمان إلا بميتة أفضل من التي كتبت لهما.