التشكيلية هناء مال الله: أحاول أن أصوغ ذاكرة لمدينة تنتصر للحياة

استرجاعات متحفية يعاد اكتشافها في معرض لفنانة عراقية في لندن

أحد الرسوم المعروضة («الشرق الاوسط»)
TT

تعيد هناء مال الله، الرسامة والباحثة التشكيلية العراقية، تشكيل الخراب الذي حل ببغداد نتيجة الحروب المستمرة، وفق نظرة فنية، بل وفق نظرتها التشكيلية والفلسفية للحدث. هي في الحقيقة تعيد إحياء هذا الخراب وتفعيله، ليس ليبقى كذكرى تاريخية بل لنتعايش معه كإنجاز إبداعي.

منذ اللحظة الأولى، ونحن ندخل معرضها الشخصي الثالث عشر، والثاني في العاصمة البريطانية، المقام حاليا على غاليري مؤسسة قطان الثقافية في لندن، ستستعيد ذاكرتنا البصرية مشاهد من خراب بغداد، جدران تفوح منها رائحة دخان الحرائق، التي نهشت جسد المدينة بفعل الانفجارات، التي تسببت بها الصواريخ والقنابل والعبوات الناسفة وغيرها من أدوات التخريب والقتل.

اللوحات كبيرة الحجم، وحتى المتوسطة، عبارة عن أقمشة محترقة ملتصقة على جسد اللوحة، مشكلة تكوينات فنية مقصودة لتقود المتلقي مباشرة إلى عمق الحدث، وليس البقاء عند السطح فقط.

تقول الفنانة مال الله لـ«الشرق الأوسط»: «أنا أردت أن أحيي هذا الخراب وأجعله أكثر فاعلية، لأنه صار جزءا منا، هذه الجدران رأيناها، وبعضها لا يزال قائما في غالبية من مناطق بغداد، ومناطق أخرى من العراق، هذا الخراب صار جزءا من ثقافتنا الصورية، التي لا مفر منها، نحن لا نريد أن نهرب من هذه الذاكرة أو نجملها، بل أن تكون جزءا من تاريخنا». الأعمال المستمدة من تأثيرات المتحف العراقي تقودك، كمتلقي، إلى ما تعرض له هذا الصرح التاريخي، الإنساني إلى خراب، وحسب رأيي مال الله، فإن التراكم هنا صار مضاعفا، تراكم تاريخي للآثار التي هي بقايا حضارات، يضاف إليها الخراب الذي لحق ببغداد، الذي سيتحول إلى تراكم صوري ـ معرفي. بدأت الفنانة هناء مال الله، مشوارها مع واحدة من أصعب المحطات العملية، وهي الرسم للأطفال، كانت لا تزال طالبة في معهد الفنون الجميلة ببغداد، عندما عملت في مطبوعات الأطفال (مجلتي) و(المزمار)، في وقت كان هناك أهم فنانين في مجال الرسم للأطفال، وهما طالب مكي، ومؤيد نعمة، وحسب وصف مال الله، «هذان الاسمان هما الأهم في فن الرسم للأطفال، وكنت أتمنى أن أصل إلى مرحلتهما، لكني لم استطع، وكان وجودهما في هذا المكان مهما جدا بالنسبة إلى عملي».

وتتحدث مال الله، عن تجربة الرسم للأطفال، وهي أولى تجاربها، أو مغامراتها الاستكشافية عمليا، فتقول: «الرسم للأطفال علمني كيف أقنن، كيف أسيطر على اللوحة وأحسن إدارتها، فالطفل ناقد جريء، ثم إني كنت ارسم في وقت كان هناك كبار من الفنانين العراقيين يرسمون إلى جانبي، وهذا ما حفزني لأن أدخل في تنافس مع من هم حولي، سواء كانوا أكبر سنا وتجربة، أو في مثل سني، المهم أنا تعلمت من الرسم للأطفال الحرفية، وهذا مهم جدا بالنسبة لي».

رسمت هناء 13 كتابا طبعت جميعها للأطفال، وحصلت على رسومها لكتاب (زنابق) على أول جائزة من منظمة اليونسكو، لم تقف مال الله، في منطقة أسلوبية واحدة، وهذا أبرز ما يميز تجاربها الفنية، لا تعترف بالتكريس لأسلوبية معينة، هي تتسابق مع زمنها لتحقق ما تريد أن تنجزه أو تجربه، وفي الوقت ذاته تؤكد إنجازاتها الإبداعية بالدراسة.

تأثرت كثيرا بتجارب الفنان شاكر حسن آل سعيد، تقول: «كان الأستاذ شاكر فنانا كبيرا وأنا تأثرت به أسلوبيا، وتعلمت الكثير من تجاربه، بل أثر في روحيا وأخلاقيا، كان مربيا كبيرا، إضافة إلى انه فنان مبدع وصاحب نظريات فنية». بعد تخرجها من معهد الفنون الجميلة، حيث تخصصت بفن الغرافيك، درست في أكاديمية الفنون الجميلة، وحصلت على شهادة الماجستير بعد أن اهتمت بدراسة «السيميائية في الرسم العراقي»"، لكن دراستها الأهم جاءت لتربط بين الفلسفة والفن التشكيلي في مرحلة البحث للحصول على شهادة الدكتوراه، من جامعة بغداد متعمقة بدراسة الرسوم العراقية القديمة (وادي الرافدين) وقد أشرف على دراستها البرفيسور مالك المطلبي.

أبرز ما تأثرت به مال الله، هي الأعمال المعروضة في المتحف العراقي ببغداد، كانت تواظب على زيارته والبقاء هناك متأملة، ودارسة للمنحوتات والجداريات البارزة، التي أنجزت عبر حضارات سومر وبابل وأكد وآشور. وكانت البشرية قد عرفت أول الأعمال الملونة في بوابة عشتار وشارع الموكب، أعمال أسطورية يعدها غالبية من دارسي تاريخ الفن بأنها بداية للسيريالية، أشكال حيوانية غرائبية، أجساد بشرية بأجنحة وأيادي بمخالب ووجوه حيوانية بألوان الأزرق الشذري، وهو اللون المقدس في الحضارات العراقية، لون السماء حيث تقيم الآلهة، واللون الأصفر المأخوذ من ألوان الذهب.

وجاءت أعمال معرضها (وثائق زيارة المتحف العراقي)، الذي حصلت خلاله على جائزة الواسطي في الرسم، لتعلن عن اكتشافاتها الجديدة لمعروضات المتحف العراقي، اكتشافات معاصرة لأعمال يمتد تاريخها لأكثر من ستة آلاف عام، ومن هناك لازمتها ما نستطيع أن نطلق عليها (الفترة المتحفية)، التي ما زالت توشم أعمالها بتأثيراتها.

تقول: «يشكل المتحف بالنسبة لي مكانا هاما، ففيه أجد المساحة التي استطيع أن أحقق فيها اكتشافاتي الفنية، لهذا عندما وصلت إلى لندن قمت بزيارة المتحف البريطاني في اليوم الثاني من وصولي».

وإذا ما تابعنا الموطن الأصلي لعائلة مال الله، فسنجدها تنحدر من محافظة (ذي قار) المزدحمة بالتاريخ، والمؤسسة اعتمادا على عمق الإنسان العراقي في عهد سومر هناك، ففي هذه المحافظة تقع منطقة أور التاريخية، التي انحدر منها النبي إبراهيم، وهناك زقورة أور ذات الطبقات السبع، وهناك كانت سومر واريدو.

بعد أكثر من 60 مشاركة في معارض دولية وعربية ومحلية، تصر هذه الفنانة، التي اقتنى العديد من أعمالها المتحف البريطاني، تصر على أن «الخراب يمكن إعادة تشكيله وصياغته وإنجازه كعمل فني حياتي وفلسفي أيضا».