فن العيش المغربي يتأرجح بين ثوابت الأصالة ورياح المعاصرة

إعادة الاعتبار للصناعة التقليدية من خلال «السكان الجدد» في مدن الصويرة ومراكش

جمهور متنوع الجنسيات تابع فعاليات الدورة الخامسة من معرض فن العيش «رياض آر إكسبو» بمراكش (تصوير: مولاي عبد الله العلوي)
TT

بين معرض فن العيش المغربي حقيقة الدور الذي قام به الأجانب، وربما من حيث لا يدرون، لإعادة الاعتبار للصناعة التقليدية المغربية، سواء من حيث طرق التسويق أو سبل التطوير، أو طرح الأسئلة بصدد حاضر ومستقبل هذه الصناعة، بشكل خاص، وفن العيش المغربي، بشكل عام. هناك «السكان الجدد» والسياح، المحسوبون على دول لها خصوصياتها الثقافية، التي تختلف في نمط عيشها وحياتها، عن النمط المغربي، الذين تجدهم يقبلون على المنتجات التقليدية المغربية، منبهرين بقيمتها الجمالية والفنية.

ومن جهة ثانية، يبدو المغاربة، الذين جذبهم، في السابق، بريق عمارة الغرب وأشكال ديكوره وطبخه وأثاثه، كما لو أنهم كانوا في حاجة إلى الأجانب لكي يتذكروا ما يوفره تاريخهم وحضارتهم من غنى وسحر، في العمارة واللباس والديكور والأثاث. وهكذا، فحين نركن لواقع الحال، سنكون مع غربيين يتركون نمط عيش غربي ليعانقوا نمط عيش مغربي، في الوقت الذي يرى فيه البعض أن المغاربة صاروا يهملون نمط عيشهم المغربي ليعانقوا نمط عيش غربي.

وفي مراكش، وهي المدينة المغربية التي تحولت إلى وجهة سياحية عالمية وإلى مكان إقامة للآلاف من الغربيين، ترك أبناء المدينة، سوق «السمارين»، وما توفره الصناعة التقليدية من مصنوعات خزفية وجلدية وستائر وكراس وأرائك وسجاد، وتهافتوا على الأسواق الممتازة والمصنوعات القادمة من فرنسا وإسبانيا والهند وتركيا، وغيرها، على وعد أن توفر لهم أشكال ديكور وزينة مختلفة، بلمسة معاصرة. ويقول محمد السعيد بن مشيش، وهو صانع تقليدي من مراكش، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأجانب كان لهم فضل كبير في إعادة الاعتبار للصناعة التقليدية بمراكش، وهو شيء شجع الصانع التقليدي المغربي ودفعه إلى تطوير صنعته. ويؤكد بن مشيش أن هذا الواقع الجديد جعله يدمج الفن في الصناعة التقليدية، من جهة توظيف الخطين العربي والأمازيغي أو الرسم، مما يعني أن الصناعة التقليدية صارت تتطور عبر إضافات ولمسات فنية تلبي انتظارات المعجبين، فضلا عن أنها صارت تخرج من أسواقها المعتادة لتقترب أكثر من عشاقها، سواء في مدن المغرب أو في الخارج، من خلال المعارض التي صارت تنظم بانتظام. وتحمل حالة الانتعاش التي تعرفها الصناعة التقليدية على مستوى الحفاظ على أصالة الديكور والتأثيث للبنايات أكثر من معنى وإفادة، فهي، من جهة، يمكن أن تجعل ابن البلد مرتاحا وقانعا ومفتخرا بماضيه وجماله، فضلا عن أنها تمنح الزائر الأجنبي، خاصة القادم من مدن الحضارة الغربية بعمارتها وديكورها الخاص والمختلف، فرصة اكتشاف أشكال جديدة للعمارة والبناء والديكور.

الصناع التقليديون ومهندسو الديكور المغاربة فهموا اللعبة جيدا، لذلك تنبهوا لقيمة التسويق، فحولوا بوصلة الصنعة والابتكار نحو انتظارات السائح أو المقيم الأجنبي.

ويقول يوسف محيي، وهو رئيس المعرض المهني لفن العيش «رياض آر إكسبو» بمراكش، لـ«الشرق الأوسط»: «إن الصناع التقليديين المغاربة صاروا يبتكرون مصنوعات جديدة، إذ عملوا، على غير العادة، على إعادة الاشتغال على منتجات غربية في محاولة لمغربتها، عكس ما كان يحدث في السابق من عصرنة وتطوير مواد أصيلة ومغربية، وهذا ينم عن فهم جديد للتسويق وإصرار لاكتشاف مساحات جديدة لجلب زبناء جدد وطلبات وأسواق جديدة».

وتحول المعرض المهني لفن العيش، الذي اختتمت فعاليات دورته الخامسة بمراكش أخيرا، إلى فضاء لعرض آخر مستجدات الصناعة التقليدية، خاصة في مجال المنتجات النحاسية والفخارية والجلدية والزرابي والنسيج، وإلى موعد سنوي للصناع التقليديين والمهنيين لتبادل التجارب والخبرات والتعريف بمنتجاتهم الأصيلة، في حمولتها الثقافية، والعصرية في تطلعاتها.

ولا يقتصر توظيف ديكورات وإبداعات الصناعة التقليدية على الدور السكنية، الخاصة بالمغاربة أو الأجانب، بل إن فنادق مراكش صارت تتوسل أصالة الماضي وقدرته على منح شكل العمارة قيمة مضافة. أما دور الضيافة، فقد حركت الحِرف التي ترتبط بشكل البناء والعمارة، مثل النقش على الجبص والخشب وصباغة «تادلاكت»، وغيرها من الحرف التي كادت تندثر. وإذا كان الشكل الهندسي للفنادق بمراكش قد أعد لكي يلبي انتظارات السياح، فإن دور الضيافة، من جهتها، انخرطت بالكامل في موضة كل ما هو تقليدي، خاصة على مستوى هندسة البناء أو الديكورات والإكسسوارات والطبخ، الشيء الذي يمنح هذه الدور سحر الماضي، لتمنح ضيوفها إغراء النزول في فضاءات «تقترب بهم» من عوالم ألف ليلة وليلة.

ويلتقي «السكان الجدد»، الذين استقروا بالعديد من المدن المغربية، مثل الصويرة ومراكش، في أنهم يؤثثون لإقاماتهم بديكورات من تراث المدينة وصناعتها التقليدية، حيث الأثاث التقليدي يوحد شكل وجمالية البيت، سواء عبر فناء المسكن أو الصالونات أو بيوت النوم أو المطبخ والحمام البلدي، أو عبر لوحات تشكيلية، غالبا ما تعيد رسم معالم المدينة بالريشة والألوان، وذلك حتى تأتي متناسقة مع المناخ العام للمسكن، وبالتالي مع باقي قطع الأثاث والإكسسوارات، التي يحيل تناسقها إلى رؤية معينة للديكور، كل هذا في علاقة بالزليج البلدي والزرابي التقليدية والأضواء والفوانيس.

ويثير المطبخ المغربي، من خلال «الكسكس» و«المشويات» و«البسطيلة» و«الطنجية» و«الطاجين»، وغيرها من الأطباق المغربية الشهيرة، متعة الخيال وشهية الأكل عند المغاربة والأجانب، على حد سواء.

ومنذ سنوات، دفعت شهرة المطبخ المغربي إلى الاحتفاء بأطباقه عبر تنظيم تظاهرات ومسابقات تأكيداً لقيمته في حياة المغاربة، وإلقاء لمزيد من الأضواء على فنونه، زيادة في شهرته أو تطويرا لوصفاته وأشكاله، في عالم متجدد يتنفس هواء العولمة.

وعلى مستوى الأزياء، تحول القفطان إلى عنوان بارز لصراع الأصالة والمعاصرة. ويتذكر متتبعو تظاهرة «قفطان»، كيف أن هذا الموعد السنوي ظل يقدم هذا الزي التقليدي في انسجام تام مع «خط تجديد ثوري»، يهدف «عصرنته» و«عولمته» في سبيل «تسويقه».

وكانت دورة «قفطان 2008»، برأي البعض، «قمة في الجرأة الزائدة عن الحد»، خاصة في تصاميم رفائيل دوريان ومحمد لخضر وإحسان غيلان، التي استوحت تصاميمها من إيقاع موسيقى «الروك» المعاصرة، المعروفة بصخبها وألوانها وإكسسواراتها الخاصة.

وتتفاوت أجوبة المصممات إحسان غيلان، وذهب بن عبود، ومارية شهدي الوزاني، على سؤال لـ«الشرق الأوسط»، عن المدى الذي يمكن أن تصله جرأة المصمم وهو يـعدل في «أصالة» القفطان أو أي زي تقليدي آخر.

وتقول غيلان إنه «لا حدود ولا نهاية للتطوير، طالما تمت المحافظة على الخطوط والمواصفات المحددة للقفطان»، بينما تعلن بن عبود أنها «مع المعاصرة، لكن، في احترام تام لتقاليد وأصالة القفطان»، أما الوزاني فترى أن «المصمم فنان، وبالتالي فـحريته على نفس مستوى الحرية التي يتطلبها العمل الفني»، قبل أن تضيف، متسائلة: «لو أننا بقينا نصمم القفاطين بالمواصفات والثوابت الصارمة لتقاليد هذا الزي، هل كنا سنستطيع تسويقه عبر العالم وإدخال العملة الصعبة إلى المغرب؟».

وتتفق المصممات الثلاث على ضرورة خروج القفطان من جغرافيته الضيقة وتحوله إلى زي عالمي، وهو الأمر الذي يفرض التطوير في أشكاله حتى يساير التوقعات والمتطلبات، كما أجمعن على أن المصمم يبقى له الحق، ككل الفنانين، في الابتكار والتطوير من دون حدود، وإن كانت المصممة ذهب بن عبود، تتحفظ، بعض الشيء، حول هذه النقطة، من جهة أنها ترى أن «القفطان سيظل دائما زيا له مقوماته الحضارية التي لا يتوجب الابتعاد عنها كثيرا».

هذا الحديث عن الهم التسويقي والعملة الصعبة، سيجد صداه في وجهات نظر أخرى، أغلبها منتقد وقليلها متحفظ، ومن ذلك انتقاد وفاء كيران، وهي مهندسة ديكور، «تغليب بعض المصممين للهم التسويقي، حتى ولو استدعى ذلك تغليب المعاصرة على الأصالة، والابتعاد عن الثوابت التي يقوم عليها فن العيش المغربي، في مختلف تجلياته وتمظهراته، سواء في الأكل أو الزي أو الديكور والتأثيث». أما المصممة غزلان سحيلي، فترى، من جهتها، أن «الأجانب صاروا يقترحون أفكارا جديدة قد لا يكون المصمم أو الصانع التقليدي المغربي أعطاها اهتمامه، في السابق، وهو ما يعني أن الغربيين أضافوا لمستهم الخاصة على المنتوج التقليدي المغربي، وهي لمسة من شأنها أن تغني المصنوع التقليدي المغربي، شريطة عدم المساس بالثوابت».

وبصدد إقبال المغاربة على منتجهم التقليدي، أشارت سحيلي إلى أن «المرأة المغربية، لا يمكن أن تذهب، اليوم، إلى عرس من دون ارتداء زي تقليدي»، مؤكدة أن «المغاربة يقبلون على مصنوعاتهم التقليدية بشكل متواصل، وهذا ما نلمسه في الأعراس وبمناسبة شهر رمضان والأعياد الدينية والوطنية، كما نلمسه داخل بيوتهم، على مستوى الطبخ والأثاث والديكور، وغيرها من مظاهر فن العيش»، غير أنها استدركت قائلة إنه «لا يمكن إنكار وجود نوع من الفتور لدى بعض المغاربة، في ما يتعلق باقتناء المنتجات التقليدية، وهو واقع يرجع إلى غياب الجودة في بعض ما يسوق، وخاصة في الأسواق الشعبية».

وختمت سحيلي حديثها، بالقول إن «فن العيش المغربي سيتطور ضمن ثنائية الأصالة والمعاصرة، وهذا أمر عادي، فطبيعة عيش المغاربة، في القرن التاسع عشر، مثلا، تغيرت، وليست هي نفسها التي نعرفها اليوم. وهذه خاصية عالمية، مع الإشارة إلى أن رياح العولمة جعلت العالم قرية صغيرة، وهو ما يشجع على الأخذ والعطاء والتأثر والتأثير».