غازي القصيبي في أمسية شعرية حاشدة في «اليونسكو»

دعا إلى باريس الشاعر سحيم الذي أحرقوه حيا قبل 1400 عام

غازي القصيبي
TT

ليس مبنى اليونسكو في باريس غريباً على غازي القصيبي وليس القصيبي غريباً على هذه المنظمة الثقافية العالمية التي سعى لرئاستها، قبل سنوات، وعاندته ظروف أكبر منه. لكن الوزير السعودي والسفير السابق عاد إليها في إهاب الشاعر، مصطحباً معه شاعراً آخر من جزيرة العرب، هو سحيم، العبد الوسيم الذي أحرقه سادته من بني الحسحاس لأنه تغزل، شعراً، بنسائهم ولم يعتذر.

قال القصيبي إنه حاول أن يكتب رواية عن سحيم ولم يفلح. ثم خطر له أن مأساة الشاعر لا يمكن أن تروى إلا شعراً. ولما باشر الكتابة تدفقت القصيدة بين يديه، مرسلة على هواه، تتخللها أبيات موزونة ومقفاة جاءت تضميناً من شعر سحيم نفسه. أما أسماء النساء التي وردت في القصيدة فهي من تلك التي وردت في شعر سحيم: سمية التي ظنته عبداً لها وحدها وغارت من تغزله بأسماء، وأسماء التي لها طبع البراكين وتضحك كثيراً عندما يلقي على مسامعها شعراً، والعامرية التي حذرته من قاتليه وناجته وبكت عليه، ودعد، وسلمى، وليلى وغيرهن من نساء بني الحسحاس، العشيرة المغمورة التي يقول القصيبي إن سحيم العبد أدخلها التاريخ رغم أنفها.

القصيبي، «سليل العماليق» المتعدد المواهب، يرى أن كل شعر حقيقي «هو شعر بطولة»، سواء في قاموسه وفي كل قاموس، وأن «كل شعر حقيقي هو شعر حرية». لذلك جمعوا لسحيم حطباً وأحرقوه ومات وهو يقول شعراً، وكان ذلك سنة 35 من الهجرة... وما زالت المحارق تعد لمحبي الحرية في بعض بلداننا حتى اليوم. وكانت قصيدة سحيم للقصيبي قد صدرت في ديوان عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. وجاء في كلمة الناشر أن شاعرها استعاد ملحمة شعرية رائعة من قلب الحكاية والأسطورة، وأعاد، من خلالها، كتابة هذا الجدال الذي لا ينتهي بين ثنائيات العشق والمحرّم، الحرية والعبودية، كما وضع يده على قاع الروح البشرية في تقلباتها بين النقمة والانتقام. وبذلك أعاد القصيبي ذكرى سحيم وأحضره إلى ديوانه بعد أن كان راقداً بسلام في باطن الأرض حيث توارى جسده المعذب بالاحتراق. «سحيم... سحيم... سحيم...»، لكأن القصيبي ينادي روحه ويتماهى مع الشاعر القديم الذي ذهب طعاماً للنيران لأنه رفض الانسياق للمحظورات التي أقامت جداراً بينه وبين حب النساء ونشدان الحرية. وكنا شهود لحظات من المكاشفة المؤثرة بين الشاعر وملهمه، إذ جلس القصيبي أمام أكثر من 500 مستمع من جنسيات مختلفة يلقي قصيدته في قاعة كبرى تنسدل عليها العتمة، ووراءه شاشة مضاءة تقدم الترجمة الفرنسية لمقاطع القصيدة، وموسيقى تنبعث من مكان خفي وتضفي على الجو ذلك السحر الذي يرافق البيان وصواب الإلقاء: «أأسماء! ها أنت ذي تكتبين بثغرك شعراً/ وقالت: ومن أي بحر؟!/ فقلت لها: هو بحر الغرام وبحر الهيام وبحر الحمام/ وتذعر أسماء: أي حمام؟! / فهل كنت، لحظتها، أتنبأ بالموت محترقاً؟/ أم تراني كنت أمارس جلجلة الموت في شفتيها؟/ أحبك حتى يمل سهيل بريقه/ وحتى يمل الحمار نهيقه/ وحتى يمل الغراب نعيقه/ وتضحك أسماء: أنت الغراب وتنعق؟/ أقول: أحبك ما دام في القعر شوك/ وما دام في سرة الظبي مسك/ وما دام في شجر الصمغ صمغ/ وما دام يسكن ظهر البعيد السنام».

ولأنه ابن نكتة والطرافة واحدة من مواهبه، كان الشاعر يتوقف، بين الفينة والفينة، ليلقي سؤالا على الحاضرين: «كم واحدة تدعى أسماء بينكم؟». أو يتلفت ليتأكد من أن مدائح السفير زياد بن عبد الله الدريس، الذي قدمه بكلمة جميلة، تتوجه إليه وليس إلى شخص ثان يقف خلفه. أسرف الدريس في الحفاوة وهو يتمنى «لو أن كل واحد منا سيصنع في حياته ما يليق باسمه لهلك الناس بأسمائهم... بين جواد ومقدام وصياد وكمل وناصر ونمر. لكن غازي قبل تحدي أهله وأعلن الغزو طوال حياته. لكن لحسن حظ الجيوش أنه استبدل الغزو المدني بالعسكري، فكانت معاركه كلها بالإبداع... يفتح قصيدة ويحرر رواية ويستعمر قلب قارئ». وتلقف القصيبي المعنى وشكر سفير السعودية لدى اليونسكو.

هل انتصر القصيبي الشاعر، في عقر اليونسكو، على القصيبي المرشح الذي طمح، عبثاً، إلى إدارتها؟ هو نفسه لم يشأ لتلك المعركة أن تبقى طي النسيان بل أشار إليها بشكل عابر لا يخلو من سخرية، مستذكراً، بافتخار الكبار، بيتاً من شعر عمر أبو ريشة يقول: «شرف الوثبة أن ترضي العلا... غلب الواثب أم لم يغلب».