التشكيلية العراقية ميسلون فرج تواجه الحرب بالأمل في معرضها بلندن

«طيارات ورقية وأحلام مهشمة».. يعكس الحرب الأخيرة في العراق

ميسلون فرج
TT

قد يثار تساؤل في ذهن زائر «غاليري آية»ayagallery عما يجمع ما بين لوحات هذا المعرض وخزفياته. فبالقدر الذي تستحضر رسوم ميسلون فرج الزيتية الغزو الأميركي للعراق عبر استخدام لغة مختزلة تقترب من عالم التصميم الهندسي نجد في خزفياتها لغة تأملية. فعينا الناظر ستتمليان تلك الزوارق المرفوعة على أكتاف الألواح التي تذكر بألواح سكان وادي الرافدين القدامى من سومريين وآكديين وآشوريين، بل تتضح أكثر من خلال استخدام خط اليد في كتابة أبيات شعرية مطلية بأكسيد الذهب، حول صحون مصنوعة من تراب الحجر المائل للون التبني. فهناك مطلع قصيدة بدر شاكر السياب الشهيرة «أنشودة المطر» تداخلت حروفه ليتحول إلى مادة تزيينية غير قابلة للقراءة. هناك نصب وأختام أسطوانية شبيهة بتلك التي كانت سائدة في بابل قبل أكثر من ألفي عام، لكن ميسلون فرج تستخدمها في نقش أسماء الله الحسنى. وكأنها بترديدها للأسماء الإلهية عبر نقشها المتكرر فوق السطوح المتعددة الألوان والأشكال تحقق تجاوزا لحالة الكرب التي ظلت ميسلون فرج تشارك الكثير من العراقيين أمام حجم الكوارث التي أنزلتها الحرب الأخيرة على المدنيين في العراق. تختبر فرج في منحوتات السيراميك مواد مختلفة منها، مما يساعدها على خلق تأثيرات مختلفة في نفس المتلقي. فهناك تراب الحجر وأكسيد الذهب والزجاج ومواد مؤكسدة أخرى، ففي عملها «بوابات السلام» يطغى اللون الفيروزي، وعلى حافة القبة برزت كتابات محفورة تمنح شعورا بالقدم. كأن القبة ببواباتها تعكس مقاما يبعث على الطمأنينة. إنه سحر الفن.

حتى في الأعمال المتعددة التي يشكل القارب (رمز الحياة اليومية وديمومتها) والسند (الذي قد يمثل أكتاف النساء أو الأعباء وتحتها يبرز) نجد أن التوازن قائم على الرغم من ميل القارب إلى الحافة التي تحمله. في المقابل هناك تحت كل سند اسم من أسماء الله الحسنى محفور بخط اليد بطريقة هندسية متقنة. هذا الفيض من أعمال السيراميك المتنوعة، يعكس حرفية عالية مزودة بروح التجريب والإبداع، والسعي لتحويل ثيمات ذات طابع تجريدي إلى أشكال ملموسة تحقق توازنا جميلا ما بين التجريد والملموس، ما بين التقليدي والمبتكر. بل تسعى الفنانة فرج أن تمضي إلى أقصى ما يمكن في استشكاف ما تحمله الحروف العربية من قدرة إيحائية في تداخلها واستثمار النقاط فيها كثقوب وفجوات على حواف صحون بيضاء مسورة بخطوط عربية.

وفي المقابل، يسعى معرض الرسوم، «طيارات ورقية وأحلام مهشمة»، إلى عكس الحرب الأخيرة في العراق وما حملته من عنف وقسوة، جعل النساء العراقيات يخضن صراعا من نوع خاص لضمان استمرار الحياة. وهذا الجانب لم تطرحه اللوحات عبر وجوه نسائية تعيش الشقاء وتنقله تعابير وجوههن، بل من خلال عناوين اللوحات التي حملت أسماء نسائية عديدة مثل «منيرة»، «صابحة»، «سراب» وغيرها. كأنه نوع من التكريم الخفي لهن، حتى مع غيابهن الكامل عن سطوح اللوحات الزيتية.

تستثمر ميسلون فرج في لوحاتها خلفيتها الأكاديمية كمهندسة معمارية، فتستخدم عدة التصميم بشكل فعال. هناك على الأقل سبعة أشكال هندسية مستخدمة في اللوحات: النخل، الطفل، الطيارة الورقية (شكل المعين)، القلب، الشمس والقمر (شكل الدائرة)، دموع وقطرات دم. كذلك هناك خطوط وسطوح وحجوم وحركة تسعى كلها لمد شعور بالقوة والاستشفاء أمام فظائع الحرب. وهذه قابلة للرصد من خلال استخدام خطوط اليد التي تدخل ضمن بناء اللوحة. هنا في فضاء اللوحات قدر من السكونية التي تواجه فوضى الحرب ودمارها والمتمثل بتلك القنابل الهابطة من السماء. فهناك، بالقرب من قاعدة اللوحة، تبرز قلوب كبيرة قادرة على استيعاب آثارها. لذلك فإن اللوحات تخلو من روح سوداوية أو انهزامية. يمكن القول بأن هذه اللوحات هي حول القوة، قوة النساء، والنساء العراقيات بشكل خاص. كذلك هي حول الحياة والعيش والجمال والخصوبة والإيمان والحب. ففي لوحة «نيران» تواجه المشاهد بستان نخل تصطف فيه الأشجار بشكل متداخل وساكن. وفي مقدمة اللوحة هناك نخلتان تحيط رأسيهما هالتان. مقابل اللون الأحمر المنبئ بالحريق، أو بيوم دينونة من نوع خاص، هناك قنبلة هابطة، ويعادلها من تحت قلب بحمرة أغمق، لكن القمر يظل كاملا ومشرقا. أما في لوحة «سراب»، فمثلما هو الحال مع أكثر لوحات المعرض، هناك خطوط سوداء تقسم سطح اللوحة إلى أشكال رباعية متباينة في قياساتها وترتيبها. ولكل شكل رباعي لون متميز. كذلك هناك دوائر تمثلت بالهالتين المسورتين لرأسي النخلتين أو بدائرة الشمس، ثم هناك طيارتان ورقيتان في الفضاء مع طفل (أقرب لشكل هندسي) يتطلع إليهما. في المقابل هناك أدوات الدمار في مربعات أخرى. في لوحة «صابحة» تقلل الهندسة التي استخدمتها ميسلون فرج من ثقل الدموع والدم وتقلل من شأن تلك الصواريخ التي لن تخلف وراءها سوى الفوضى والبشاعة والموت والدمار من خلال وقوف تلك النخلتين المرهقتين وقوفا شامخا ومن خلال الطيارة الورقية المتعالية في الفضاء. كل ذلك يساعد على خلق شعور قوي بالتعاطف من دون استغراق عاطفي، فكل شيء في اللوحة يمتلك كبرياءه وصلابته. إنها هندسة مقاومة سلاحها الرحمة والحب.

هذه المعالجة متكررة في الكثير من لوحات «طيارات ورقية: أحلام مهشمة» كذلك نجد وحدة في استخدام المواد الدافئة حيث تختلف في كل شكل رباعي عن غيره، فهي ما بين الأحمر ومشتقاته والأخضر والأزرق. وهذه الألوان تمنح بعدا ثالثا للوحات حتى مع غياب المنظور فيها. هذه اللوحات تقترب من الأرابيسك (فن المنمنمات الإسلامية) من دون أن تكون محكومة بأنساق وأنماط ثابتة. تقول الفنانة فرج عن أعمالها الفنية في هذا المعرض، إنها أشبه بالتعويذة ضد اليأس أمام ما يجري في العراق.

جاء معرض ميسلون فرج المنفرد هذا بعد مضي 15 سنة، شاركت خلالها في معارض مشتركة مع فنانين عراقيين آخرين، ويحتل بعض من أعمالها قاعات مراكز فنية بارزة في العالم مثل المتحف البريطاني ومتحف الفن الوطني للنساء في واشنطن، وحازت عدة جوائز عالمية للفن التشكيلي. ويعود هذا الانقطاع الطويل لفرج إلى انشغالها في مشروع «أعمال فذة: الفن العراقي المعاصر» Strokes of Genius الذي أسسته في عام 1995. وهو يتكون من ثلاث أجزاء، الأول يتمثل بإقامة معرض متنقل في بريطانيا والولايات المتحدة بين عامي 2000 و2003، أما الجزء الثاني فهو إنشاء موقع إنترنتي INCiA (شبكة الإنترنت للفنانين العراقيين المعاصرين www.incia.co.uk)، ثم إصدار كتاب يحمل عنوان المشروع بالإنجليزية عن دار الساقي في عام 2001) قامت بتحريره. وفي عام 2002 أنشأت «آية غاليري» بلندن مع زوجها المهندس المعماري علي الموسوي، حيث استمرت بتنظيم معارض قيّمة، وبذلك أصبح هذا الغاليري الموقع الأول في لندن المكرس للترويج لفن نوعي منتج بالدرجة الأولى في العراق، لكنه منفتح أيضا على العالمين العربي والإسلامي. وفي عام 2008 دعيت كي تكون حكما في أول مسابقة للفن والثقافة العربيين في المملكة المتحدة عنوانها «Arab Art and Cultural Award».

يستمر معرض ميسلون فرج «زوارق وأعباء: طيارات ورقية وأحلام مهشمة» حتى تاريخ 25 حزيران(يونيو) 2009 في «غاليري آية».