عرض يُرقص الخشب والغبار بفضل التكنولوجيا في بيروت

في افتتاح «مهرجان الرقص المعاصر»

مشهد من عرض «ليف» الذي قدم في بيروت (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

بعد ما يقارب الساعة، انتهى العرض، وأخذ المتفرجون الذين غصّ بهم «مسرح المدينة» في بيروت مساء الخميس الماضي، ينظرون إلى بعضهم البعض، ويقول كل منهم للآخر: «هل أعجبك ما شاهدت؟» وثمة من كان يقول أيضاً: «هل هذا رقص؟» وهناك من أخذ يعلق بأن الإيطاليين الذين اختاروا هذا العرض لتمثيل بلدهم في بيروت، لم يفهموا السيكولوجيا اللبنانية، ومدى النفور من كل موضوع له صلة بالحرب، ولو كان مسرحياً أو راقصاً».

ومع أن «ليف» هو عرض لا يفوت، إلا أن الذائقة العامة لم تلتقط معانيه، بسبب نخبويته، واعتماده الحاد على حسابات رياضية وتكنولوجية، وبه افتتح «مهرجان الرقص المعاصر» الذي بدأت أعماله في بيروت، مساء الخميس الماضي، ويستقطب أعداداً كبيرة جداً من فئة الشباب. و«ليف» ليس عرضاً راقصاً بالمعنى التلقليدي للكلمة، وإنما هو يخلط التجهيز بالرقص بطريقة تجعل كل الفنون حاضرة في وقت واحد على حيز صغير من الخشبة، بحيث يحدث الإدهاش، ليس بفضل حركة الراقص، وإنما بسبب تضافر كل العناصر الضئيلة المستخدمة دفعة واحدة، بطريقة مدروسة ومقننة وبأسلوب لا يخطر على بال.

عندما دخلنا الصالة، كان الراقص واقفاً على المسرح يبحلق بنا، ينتظر أن يأخذ كل متفرج مكانه، ويستوي في مقعده. وبعد أن امتلأت القاعة وانطفأت الأضواء، إلا من تلك البقعة التي يقف فيها الراقص، وهي مساحة مستطيلة، يتحرك داخلها طوال فترة العرض، حلّ صمت كبير، ودوّى انفجار تزامن مع ظلام دامس غطى المكان. وفجأة شاهدنا الشخص الموجود على المسرح يطارد بحركات هستيرية مجموعة من الأجسام المضيئة، وسط العتمة، وكأنها شهب ترقص في كل اتجاه وهي تناوره على وقع ضجيج موسيقي صاخب. هذه الأضواء القليلة مع عدد من الألواح الثلاثة المتدلية من السقف والغبار الرملي الموجود في المستطيل المحيط بالراقص، ستشكل مع الموسيقى بتنويعاتها، العناصر الوحيدة المستخدمة لإبهار العين والحواس، وهي تحكي متعاضدة، قصة جندي روسي أصيب في رأسه خلال الحرب، وفقد ذاكرته، وأخذ يناضل وحيداً معزولا ليفهم من هو ويستعيد شيئاً من ألق الماضي الذي غادره. الجندي يكابد إذن على المسرح، والرسائل الصوتية الإلكترونية تأتيه من الفضاء بين الحين والآخر، تذكره بما فات. اللوحات الثلاث التي تتدلى من أعلى مرة تكون متلاصقة وتشكل سقفاً، ومرة أخرى تتحول إلى شاشات نرى فيها الجندي يبحث عن ذاته، ثم ينبش في الرمل عن صورة أمه التي تنعكس تدريجياً على اللوحات. هو يرسمها في التراب وهي تتشكل على الشاشات. ومرات أخرى، ينهض ليكتب على الصور المتعاقبة بخط يده. أو قد تتحول هذه اللوحات إلى مرايا تعكس صورة الجندي وقد تصير حواجز تمنعه من الحركة، وتعيق حريته. تكتشف كم أن ألوحاً بيضاء حيادية، يمكنها أن تكتسب هويات ووظائف مختلفة تبعاً للسياق الذي توضع فيه. لا كلام في العرض إلا ذاك الآتي من الفضاء، والموسيقى هي طنين أو أزيز وربما انفجارات متفرقة، وصوت سيارات إسعاف، وشيء يشبه الرصاص المدوي، كما هدير طائرات تشعر أنها تعبر المكان. الجندي غارق في بحثه بمعونة مصابيحه التي تستخدم بشكل بديع لتعمل على تشكيل فرجة عامرة بالدهشة. وفي كل مرة تظن فيها أن العرض استنفد قدرته على إيجاد تشكيلات جديدة من هذه العناصر القليلة التي اشترطها على نفسه، تكتشف بعدها أن لوحات بصرية جديدة لا تزال ممكنة. شيء ما يشبه العمليات الحسابية أجريت على موجودات المسرح القليلة، لكي تستنفد حتى آخر رمق. وحين تظن أن شيئاً جديداً ما عاد ممكناً، ينهض الجندي الطالع من النسيان، يقف أمامك مغبراً معفراً ويأخذ ينثر التراب تحت وهج البروجكتورات التي تلاحقه، وكأنه يرسم أطياف أناس، يعودون إلى ذاكرته. رسومات من غبار وضوء تخلب البصر. وعلى وقع موسيقى رومانسية ناعمة، لا تشبه الصخب الإلكتروني الذي سبقها، يسترجع الجندي أناسه المنسيين وهو يرسمهم في الهواء ثم يتلاشون سريعاً.

أما حين تصل المشهدية إلى ما يمكن أن نتصوره غايتها الأخيرة، فإن حبلين يتدليان من أعلى يربط بهما الجندي نفسه، ويبدأ في محاولة للصعود في قفزات، تشبه لحظات انعدام الوزن عند رجال الفضاء. يرقص الجندي مرتفعاً عن الأرض، وكأنما يتخفف من كل أوزانه وأحماله، ويترنح في الهواء، كأنه هو دمية من قماش. مشاهد متلاحقة، لصور فنية تركّب أمام متفرجين جاءوا ينتظرون رقصاً في افتتاح مهرجان مخصص للرقص المعاصر، فوجدوا عرضاً يصعب تحديد هويته، في زمن تداخلت فيه الفنون حد الذوبان. مفاجآت «مهرجان الرقص المعاصر» مستمرة في بيروت لغاية 30 أبريل، والعروض تتوزع على مسارح بيروت، بابل ومونو.