مصمم أول نصب للجندي المجهول في بغداد يحضر لإعادة بنائه.. وفي مكانه الأصلي

صدام أزال عمل الجادرجي في ساحة الفردوس عام 1982 ونصب تمثاله محله

نصب الجندي المجهول الذي صممه المعماري رفعت الجادرجي («الشرق الأوسط»)
TT

بعد نحو ثلاثة عقود من مغادرته العراق وإزالة أهم عمل له بأمر من الرئيس السابق صدام حسين، عاد المعماري العراقي الشهير رفعت الجادرجي الى بغداد أخيرا حاملا تصاميم لإعادة بناء نصب «الجندي المجهول» وفي مكانه الأصلي ساحة الفردوس وسط العاصمة. ويقول الجادرجي الذي يعيش في لبنان «اقوم بإنجاز التصاميم الاولية للنصب بعد ان تم تكليفي من قبل الجهات الحكومية لغرض اعادة انشائه في مكانه المعروف وبالطراز ذاته وهذا شيء هام بالنسبة لي مثلما كان النصب يشكل اهمية استثنائية عند انشائه لاول مرة»، حسبما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية.

وتعود فكرة انشاء نصب الجندي المجهول الى عام 1958 عندما كلف الجادرجي بإقامة نصبين «نصب الحرية» الذي نفذه الراحل جواد سليم والثاني «نصب الجندي المجهول» الذي كان يعد من معالم العاصمة حتى ازالته عام 1982 من «ساحة الفردوس»، ليقام مكانه تمثال لصدام ازاله الاميركيون عندما غزوا العراق في 2003. ونفذ الفنان الراحل خالد الرحال في الثمانينات نصبا اخر للجندي المجهول.

ولد رفعت الجادرجي في بغداد عام 1926 لأسرة عراقية عريقة حيث عرف والده كامل الجاردجي بأنه من اشهر الصحافيين في ثلاثينات القرن الماضي وعمل في مكتب استشاري للعمارة انشأه بعد عودته من انجلترا 1951 وتابع فيه عمله حتى عام 1977. واستفاد من عمله في منصب رئاسة قسم المباني في مديرية الاوقاف العامة ثم مديرا عاما في وزارة التخطيط في اواخر الخمسينيات ورئيسا لهيئة التخطيط في وزارة الاسكان في تطوير اهتماماته الهندسية بل ان يبلور اسلوبا معماريا عرف به.

واعرب الجادرجي عن اسفه لما آلت اليه اوضاع المباني في العاصمة بغداد. وقال «لا اصدق ما جرى، لقد تحول كل شيء الى خربة تقريبا، لقد تعرض العراق لغزوات ولم يستقر منذ فترات طويلة وهذا ما ينعكس باستمرار على التفاصيل الحياتية والعمرانية». ولفت الى ان «اعادة احياء العمارة يتطلب وقتا طويلا لكي يتسنى للمجتمع ان ينهض مرة اخرى ويكتسب شبكة ثقافية ويهتم مجددا بالعمارة والمباني». وقال «في عام 1950 زرت المانيا ورأيت مناطق سويت بالارض وفي الستينات وجدت تلك الأماكن تتمتع ببناء جميل وشوارع منظمة، والسبب وجود مجتمع متنام يملك حرية الابتكار». وانصب اهتمام الجادرجي على ايجاد اسلوب مناسب لعمارة عربية ممزوجة بالتراث مستفيدا في الوقت ذاته من اسلوب العمارة الحديثة مثلما تظهر المباني التي قام بتصميمها.

اكمل الجادرجي دراسته في مدرسة «هامر سميث للحرف والفنون» البريطانية وواجه بعد عودته الى بغداد تحديا مع تقاليد المجتمع البغدادي القديم عندما كان يعتبر مثل هذه الحرف لا تخرج عن اطار حرفة البناء او «المعمرجي». واعطى اهتماما استثنائيا بالمواقع المعمارية للمباني التي صممها في شارع الرشيد التي اعتمد فيها على «الشناشيل» او النوافذ الخشبية المزركشة، والتيجان والاقواس الظاهرة في المباني المطلة على الشارع والمقرنصات الحديدية والخشبية البارزة من تلك المباني التي اندثر بعض منها بسبب التحديث وبقي البعض الاخر وهو قليل جدا محافظا على شكله. كما حصل الجادرجي الذي شارك في معارض عالمية عديدة اهتمت بمسابقات التصاميم على جائزة لمشاركته في تقديم نماذج لمبنى البرلمان الكويتي.

اعتقل الجادرجي عام 1977 وبقي في سجن ابي غريب لمدة 20 شهرا قبل ان يطلق سراحه بطريقة مؤثرة، فعندما كان العراق يستعد لاستضافة مؤتمر عدم الانحياز طلب رئيس النظام السابق صدام حينها مقابلة اشهر المعماريين لتكليفه بإعادة التنظيم العمراني لبعض الاماكن في بغداد. واخبر صدام حسين بوجود اشهر المعماريين في السجن فأمر باطلاق سراح الجادرجي ليتفرغ للمهمة.

ويكشف الجادرجي (83 عاما) الذي يهتم بالتصوير الفوتوغرافي حيث يحتفظ بأرشيف يضم اكثر من 10 آلاف صورة لمدن عراقية وعالمية عن اهتمام استثنائي بالموسيقى. وقال «استمع الى الموسيقى يوميا وتحديدا الالمانية واليابانية واشاهد المسرحيات الفرنسية». وعمل استاذا زائرا في جامعة هارفارد من 1984 الى عام 1986 ثم استاذا زائرا في قسم العمارة في مدرسة «بار تلت» في جامعة لندن وفي غضون ذلك كان محاضرا في فلسفة الفن والعمارة والانثروبولوجيا وعلم الاجتماع في جامعات السودان وتونس والبحرين.

وانجز الجادرجي عشرات المشاريع في العاصمة بغداد ويبقى نصب الجندي المجهول الابرز في مشواره، وكذلك مبنى دائرة البريد والاتصالات في منطقة السنك في قلب العاصمة التي تقع على ضفة نهر دجلة من جانب الرصافة، وكذلك مبنى اتحاد الصناعات العراقي. ونال جائزة الشيخ زايد عن كتابه «في جدلية وسببية العمارة».

وللجادرجي مؤلفات في العمارة ابرزها «الاخيضر والقصر البلوري» و«شارع طه وهامر سميث» و«حوار في بنيوية الفن والعمارة» و«جدار بين ظلمتين» الذي ارخ فيه للشهور العشرين التي امضاها في سجن ابو غريب.

وفي 1993 عندما استقر في لبنان اسس مركز ابحاث حمل اسمه وتفرغ للبحث في فلسفة العمارة ونظريتها، وفي عام 1999 اسس مؤسسة الجادرجي التي ترعى تطور العمارة في العالم العربي حيث تقوم سنويا بالاشتراك مع نقابة المهندسين في بيروت بتقديم جوائز لطلبة العمارة في لبنان.