«هيروشيما حبيبتي» بعد 50 عاما

بطلة الفيلم هجرت مهنة الخياطة إلى الشاشة الفضية

ملصق الفيلم («الشرق الأوسط»)
TT

كان يا ما كان.. في قديم الزمان، أي قبل نصف قرن من الآن، خياطة فرنسية فقيرة تدعى بوليت ريفا، لا تسلية لها سوى مطالعة المسرحيات، بحيث صارت تحلم بأن تقف على خشبة المسرح. ولتحقيق حلمها ذاك، جمعت الخياطة مبلغاً من المال، وهجرت الخيوط والأقمشة والدبابيس، ونزلت إلى باريس، ودفعت أُجور مدرسة خاصة لتعليم التمثيل.

صارت بوليت ممثلة، وغيرت اسمها إلى إيمانويل ريفا، ووقفت على خشبة المسرح تؤدي دوراً في مسرحية كان عنوانها «فزّاعة العصافير». وتصادف أن رأى صورتها، في ملصق المسرحية، مخرج مبتدئ يدعى ألان رينيه، وكان يبحث عمن يسند إليها الدور الرئيسي في فيلمه الروائي الأول «هيروشيما حبيبتي». وكانت الصورة كافية لأن يصيح «وجدتها...».

والقصة بعد ذلك معروفة. نجح الفيلم نجاحاً عالمياً، رغم أنه ينتمي إلى ما نسميه «سينما المثقفين»، ودخلت الخياطة الموهوبة التاريخ. فقد طلب رينيه إلى الروائية مرغريت دوراس أن تكتب سيناريو الفيلم الذي يتناول مأساة القنبلة النووية الأميركية التي أُلقيت على مدينة هيروشيما اليابانية، عام 1945، وجاء بالممثل الياباني إيجي أُوكادا لكي يقف أمام البطلة الفرنسية، واعتمد في التصوير أُسلوباً حديثاً جعل من المشاهد مقاطع متصلة من قصيدة بصرية. ورغم أن السلطات اليابانية لم تكن متحمسة لهذه الحكاية التي تنبش أشباحاً من المريح نسيانها، فإن استقبال النقاد للفيلم أجبرها على القبول به، بل حرَّض سينمائيين محليين على تصوير أفلام عن هيروشيما.

اليوم، بعد 50 عاماً على العرض الأول، يستعيد المركز الثقافي الياباني في باريس ذلك الحدث السينمائي، من خلال تقديم سلسلة من العروض لـ «هيروشيما حبيبتي» مع ندوات ومعرض وأفلام وثائقية عنه، وعن مدينة هيروشيما التي نهضت من رمادها بعد زيارة طائر الخراب. وأجمل ما في هذه الاستعادة أننا نكتشف أن إيمانويل ريفا ما زالت تعيش بيننا، بعد رحيل ألان رينيه، ودوراس، وأُوكادا، وإنها إلى جانب التمثيل نشرت مجموعات شعرية، كما كانت قد صورت بكاميراتها الفوتوغرافية سلسلة من الصور أثناء وجودها في هيروشيما لتصوير مشاهد من الفيلم، وهي الصور التي شاهدناها في المعرض.

نرى أطفالاً يركضون في حقول محروقة، وبنات بفساتين صيفية قصيرة تتضاحكن أمام العدسة، ورجلاً بقبعة عريضة من القش يسير إلى جانب دراجته الهوائية في زقاق ضيق ووسط بيوت عشوائية من ألواح الخشب. فهل هذه هي هيروشيما بعد أربع سنوات من إلقاء القنبلة؟، وماذا كان يقصد بطل الفيلم الذي لا نعرف له اسماً، عندما كان يحاجج حبيبته الفرنسية التي لا نعرف لها، هي الأُخرى، اسماً، ويقول لها «أنت لم تبصري شيئاً من هيروشيما.. أي شيء».

والمرأة الأجنبية التي تستلقي في أحضان حبيبها الياباني تصر على أنها شاهدت هيروشيما، ورأت الصور القديمة، وزارت المتحف الذي بني بعد الكارثة. والرجل يصر على أنها تخترع كل شيء، دون أن يفكر بأنها كانت تسترجع، من ذاكرتها المعذبة، مشاهد مروعة من الحرب وقعت في مكان آخر، عندما كانت تحب رجلاً آخر.. جندياً ألمانياً ممن غزوا بلادها. لذلك، نسمعها في الفيلم تقول «علينا أن نتعلم كيف ننظر، وكيف نتذكر». لذلك، كتب الناقد دافيد فيليب أن فيلم «هيروشيما حبيبتي» يدور حول تأملات فكرية في معاني الحياة، والحب، والزمن، والذاكرة. وإذا كانت عملية قصف المدينة بقنبلة مدمرة هي مركز التأملات، فإن الذاكرة هي البطل الأول للفيلم، وهي ما يجمع الماضي بالحاضر ويحدد الزمن، وبدونها لا وجود فعلياً للزمن، وفي غيابها لن نفهم أحداث حياتنا.

يحكي الفيلم قصة ممثلة تسافر إلى اليابان للمشاركة في فيلم حول السلام في هيروشيما. وهناك تتعرف إلى رجل ياباني، وتحبه، لأنه يذكرها بحبها الأول.. جندي ألماني كانت قد عرفته قبل خمس عشرة سنة. لكن هذا السرد الموجز يبدو تبسيطياً إزاء ما في مشاهد الفيلم من غموض وتقاطعات ولقطات طويلة صامتة. فقد أعطى المخرج للمشاهد طرف الخيط، وترك له أن يواصل النسج وحده، معتمداً على حساسيته وثقافته وتجاربه وذاكرته الخاصة.

لم يكن ألان رينيه، قبل هذا الفيلم، قد خاض تجربة الأفلام الروائية الطويلة. فهو فنان مونتاج، وسبق له إخراج أفلام وثائقية قصيرة. لذلك قرر أن يستفيد من درايته بالوسط السينمائي، وبفنييه، وممثليه، وخبرائه، ولجأ إلى مرغريت دوراس لكي يضع على كاهلها عبء صياغة السيناريو. مَنْ غيرها، هي الكاتبة القديرة والمخرجة التي أمضت طفولتها وصباها في الهند الصينية، يمكن أن يفلح في هذه المهمة؟. وعملت دوراس مع رينيه وكأنهما يرسمان وصية فكرية وجمالية: النضال ضد النسيان، وضرورة استحضار الماضي في الحاضر، وفي ما نراه حولنا من أحداث راهنة.

خمسون عاما تستحق الاحتفال بفيلم «هيروشيما حبيبتي» الذي صوره مخرجه بالأسود والأبيض.