شارع المعز لدين الله في القاهرة.. يضم 33 أثرا إسلاميا نادرا

من بينها مساجد وقصور ومدارس وبوابتان وزوايا أعيد ترميمها وإنقاذها من الانهيار

آثار الشارع تتلألأ في حلتها الجديدة
TT

حلة حضارية بهية ارتداها شارع المعز، أشهر شوارع القاهرة الفاطمية، الذي يحوي العديد من كنوز التاريخ الإسلامي في مصر. فعلى امتداد نحو كيلومتر، يأخذك الشارع في لوحة من الجمال الأخاذ، تتفنن في صنعها مبانيه التاريخية، التي تبدأ من الدولة الفاطمية إلى الدولة الأيوبية، وتضم 33 أثرا منها ستة مساجد أثرية‏، وسبع مدارس، ومثلها أسبلة، وأربعة قصور، ووكالتان، وثلاث زوايا، وبابان هما‏:‏ باب الفتوح، وباب زويلة،‏ وحمامان شعبيان، ووقف أثري.

يعد شارع المعز من أقدم شوارع مصر والعالم، فعمره يزيد على ألف عام، وخلال هذا الزمن المديد ظلت آثاره صامدة لم تتغير، وإن تأثرت بما أنشئ حولها، وبعوامل طبيعية مختلفة، حيث تعرض منسوب الشارع للارتفاع أكثر من مرة، وزاد منذ الستينيات حتى الانتهاء من تطويره بمعدل مترين، بسبب الرصف المتكرر له.

وعلى مدى كل هذا التاريخ تراكمت على الشارع وآثاره العديد من التعديات، سواء كانت حكومية أو سكنية أو تجارية، وتحت وطأة هذه التعديات أصبحت بعض آثار الشارع مهددة بالانهيار، إلى أن وقع زلزال أكتوبر 1992، الذي أصبحت بفعله جميع آثار الشارع مهددة.

ومع بداية العمل في تنفيذ مشروع القاهرة التاريخية عام 1998،، وضع المشروع على رأس أولوياته ترميم جميع الآثار التاريخية الواقعة في هذا الشارع العتيق وغيرها من آثار القاهرة الإسلامية.

ومنذ ذلك العام وأعمال الترميم تجرى لصيانة وترميم آثار الشارع، إلى أن انتهى فريق الترميم من صيانتها جميعا، ليصبح الشارع في حلة جديدة، تودع بها آثاره ذلك الماضي البعيد، الذي ظلت تئن فيه من التعديات تارة والإهمال تارة أخرى.

ونظرا للأهمية الأثرية والتاريخية للشارع قرر المسؤولون، أن يتم افتتاح كل مرحلة من مشروع ترميم الشارع فور الانتهاء منها أمام الزيارة السياحية، وعلى ذلك كان يتم افتتاح ما يتم ترميمه تباعا، لكن التعديات لم تنته، وظلت تعترض مشروع الترميم نتيجة حجم التعديات في الشارع، فضلا عن حركة السيارات وبخاصة المركبات ثقيلة الوزن مما كان ينتج عنه هبوط في منسوب الشارع، وهو ما كان ينعكس بالتالي على المواقع الأثرية الموجودة فيه. وظل فريق الترميم يضغط بكافة الوسائل المشروعة للخروج بقرار رسمي يمنع مرور مثل هذه المركبات في الشارع وإغلاقه إلا من المشاة فقط، حفاظا على الشارع وتاريخه وما يضمه من كنوز أثرية، وتحويله إلى متحف مفتوح، إلى أن تحقق هذا الأمل أخيرا، وصدر قرار بتحويل الشارع إلى متحف مفتوح وإغلاقه أمام المركبات الكبيرة، فضلا عن إعداده بالشكل الذي يليق بأهمية وتاريخ الشارع.

«الشرق الأوسط» قامت بجولة استطلاعية في شارع المعز، ورصدت في هذا التحقيق مستقبل الشارع في ظل الوضع الجديد الذي سيصير إليه، بعد تحويله إلى متحف، وأهميته لما يضمه من آثار جعلته يتفرد عن غيره من الشوارع في مصر والعالم أجمع، ثم مدى ارتباط سكان الشارع وتجاره بالتطوير الذي جرى، ومعرفة ما إذا كان التطوير قد يمسهم في أرزاقهم، وهل ثمة بدائل تعويضية لهم.

حسب تفسير الأثريين فإن التطوير استهدف جعل الشارع على غرار الشوارع التي يتمتع فيها المشاة بدول العالم بالسير بعيدا عن الصخب المروري وتكدس الباعة الجائلين، إلا أن الفارق بين هذا الشارع وغيره من شوارع العالم، أن الشارع المصري يتفرد في كونه يضم إرث الماضي الإسلامي الذي يشهد على العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية.

مشروع تحويل الشارع إلى متحف تم على مرحلتين، بدأت الأولى بعد صدور القرار الحكومي الذي أصدره رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف وشملت تطوير وتهيئة المباني والشوارع المحيطة بالمواقع الأثرية الموجودة بشارع المعز وبلغت 33 أثرا إسلاميا نادرا.

فيما استهدفت المرحلة الثانية تحويل الشارع إلى متحف مفتوح، وتضمنت تهيئة تغيير الأرضيات ورصف الشوارع وإعداد واجهات المباني الأثرية وقصر الشارع على المشاة، بالإضافة إلى تهيئة البيئة المجتمعية لسكانه وأصحاب المحال التجارية، في الوقت الذي وصلت فيه كلفة ترميم آثاره وتحويله إلى متحف 83 مليون جنيه مصري.

وإجمالا فقد شمل مشروع التطوير رصف الشارع بالأحجار القديمة وإزالة العشوائيات القائمة به، فيما كان اللافت تجاوب أهالي المنطقة مع فريق الترميم، حيث ساعدوهم في الحفاظ على الطابع التاريخي والارتقاء بالمستوى البيئي لهم، مما عكس إدراكا منهم لتدعيم الانتماء والإحساس بالمسؤولية تجاه المباني بالحفاظ عليها.

الأثريون أيضا لا ينظرون إلي منطقة القاهرة التاريخية على أنها مجرد منطقة أثرية فقط، وإنما باعتبارها منطقة اقتصادية أيضا، ومن هذا المنطلق كانت النظرة لمشروع التطوير بهدف تحويل الموقع إلى مكان ترويحي تراثي وأيضا اقتصادي من خلال إعادة تأهيل كل مفردات المنطقة.

وهنا تبدّت المخاوف لدى الكثير من سكان المنطقة من أن يكون مشروع تحويل الشارع إلى متحف موجها إلى ضرب اقتصادهم وأرزاقهم. ويدفع ذلك إلى طرح السؤال: كيف يتم هذا التعايش وصورته، بالشكل الذي يمكن أن يتم معه الحافظ على الأثر وعدم الإضرار به، وفى الوقت نفسه عدم المساس بمصادر رزقهم؟. يقول فارس علي، تاجر عطور وأنتيكات قديم بالشارع: «أنا مع مشروع تطوير الشارع، هذا عمل حضاري، كلنا لازم نقف بجانبه، الشارع بقى آية في الجمال والنظافة، حاجة تشرح القلب والله، تسلم إيديهم».

وحين سألته عن وضعه بعد الانتهاء من مشروع الترميم «أنا متمسك بوجودي في الشارع، ومنتظر المحال الجديدة اللي هيعلنوا عنها فيه، وبصراحة الشارع بعد التطوير أصبح مصدر رزق هايل وراق، وأنا مش ها ضحي بخمسين سنة عشتها فيه».

وعلى عكس فارس هناك من سكان وأصحاب المحال من عبر عن رغبته في تغيير نشاطه والتحول إلى المحال الجديدة، التي ستقام لهم وفق الشروط التي سيتم تحديدها لاحقا، بما يتناسب والبيئة المكانية والقيمة الأثرية للشارع، وإن كان هذا سيرفع عليهم أعباء القيمة الإيجارية للمحال الجديدة. وفي المقابل رأى آخرون أنهم لا طاقة لهم بهذه القيمة الإيجارية المرتفعة، وأنهم يفضلون الانتقال إلى المحال التجارية البديلة، التي تعتزم محافظة القاهرة توفيرها لهم في مدينة العبور بأطراف مدينة القاهرة. يقول فاروق حسني، وزير الثقافة المصري، إنه يشترط تغيير نشاط من يرغب في الاستمرار بالشارع بنشاط يتلاءم والقيمة التاريخية للآثار وطبيعة الشارع الحضارية الجديدة، الأمر الذي سيعود بالنفع عليهم اقتصاديا، وبما يمكن أن يسهم في تحويل الشارع إلى مزار سياحي للسائحين.

ومع انتقال المحلات التقليدية من الشارع إلى مواقع أخرى بديلة، فإنه سيقام في المقابل «بازارات» لبيع الأنتيكات والمأكولات والتذكارات إلى السائحين، في الوقت الذي سيجدون فيه أنفسهم مستمتعين بالمنطقة وهم مترجلون، لا تزعجهم السيارات، أو تشوه أبصارهم المحلات التقليدية القديمة، التي لا تتناسب والرؤية البصرية للموقع التاريخي.

وفي إطار التعاون بين القائمين على المشروع وسكان المنطقة وأصحاب المحال التجارية القديمة، أبدى الوزير حسني استعداده لتعاون الوزارة مع أصحاب الحرف في المنطقة لإحياء الحرف التراثية وعودتها كما كانت في شارع المعز.

ويقول: الوزارة تعرض خدماتها على التجار في هذه المنطقة وتقدم أفكارها لهم مجانا في هذا الشأن، و«إن من لا يستطع تغيير نشاطه يمكن أن نتعاون له مع محافظة القاهرة لتوفير البديل له، لتبقى المنطقة بآثارها للحرف التقليدية والتراثية، والمطاعم».

ويعتقد حسني أن هذا الإجراء سيعظم الفوائد التي ستعود على المنطقة، وسيوفر مكانا ترويحيا واقتصاديا ومقصدا سياحيا متكامل المواصفات، مما يؤهلها إلى الاستثمار الاقتصادي، بموافقة واشتراطات الآثار، لتعظيم العوائد الاقتصادية للمنطقة.

مشروع تطوير شارع المعز يأتي في إطار تصور أشمل وأجمل للقاهرة، بحيث يستطيع الزائر أو السائح التجول نهارا بين متاحفها التي أعدت بأحدث تقنيات العصر في المتحف المصري الكبير الجاري إنشاؤه على مقربة من أهرامات الجيزة، ومتحف الحضارة بالفسطاط، ومتحف محمد علي باشا بشبرا، أو التجول في شارع المعز، بحيث يستطيع قضاء أمسية يستمتع فيها بمشاهدة أكثر للآثار الإسلامية في القاهرة التاريخية.

ففي باب الفتوح حيث أسوار القاهرة الشمالية من الشارع، سيجد الزائر سكنا للجند وقاعات للمحكمة، لذلك سيتم التفكير لاحقا في إنشاء متحف للعمارة الحربية في محيط البابين، تستخدم فيه أحدث تكنولوجيا العصر ليعود الزائر إلي القرن العاشر الميلادي، ويشاهد كيف كان يعيش سكان القاهرة، وكيف كانوا يدافعون ويحصنون مدينتهم وطبيعة المعارك التي خاضوها، وهو المتحف الذي سيتكامل مع متحف النسيج الإسلامي لخدمة شارع المعز الذي كان يخلو إلى وقت قريب من أية متاحف.

وخلال المناسبات الدينية والأخرى المختلفة، يمكن لزائر الشارع والمنطقة أن يلاحظ الإضاءة الحديثة لجامع السلطان برقوق، الذي تم اختياره لتنفيذ تجربة الإضاءة بألوان مختلفة، أبرزها الأصفر والأبيض، والاستعانة بالألوان الزاهية المختلفة والمبهرة فقط خلال الأعياد والاحتفالات، أو بشهر رمضان المبارك، وذلك في إطار الحفاظ على القيمة التاريخية للمكان والأثر. والواقع فإنه وبعد انتهاء مشروع الترميم، وعقب جولة قام بها أخيرا وزير الثقافة المصري في الشارع بصحبة عدد من المفكرين والمثقفين، أعلن عن اكتمال مشروع تحويل شارع المعز لأكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم، وتحوله إلى مقصد سياحي من الدرجة الأولى تفخر به مصر. إلا أن أبرز ما يعيق هذا الحلم كله، حسبما يرى فاروق حسني، هو كوبري الأزهر، الذي يطالب بإزالته لإعادة التحام شارع المعز كما كان مرة أخرى، مع إنشاء نفق يربط جانبي الشارع، وقصر مرور السيارات على نفقي الأزهر مع المرور السطحي وإلغاء الكوبري الذي يحتل ثلثي نهر الطريق ويسبب تلوثا بصريا إضافة إلى ما يحدثه من مشاكل مرورية، على حد تعبيره.

فاروق عبد السلام، وكيل أول وزارة الثقافة المشرف العام على المشروع، يشرح جانبا من تفاصيل المشروع بقوله: الوزارة انتهت من ترميم جميع آثار الشارع من الناحية الإنشائية والمعمارية، وإجراء الترميم الدقيق «مصطلح في الترميم الأثري» لأسقفها وزخارفها، بداية من بوابة الفتوح وسبيل كتاب كتخدا، الذي أنشأه الأمير عبد الرحمن كتخدا سنة 1744 م وقصر الأمير بشتاك الذي أنشأه الأمير سيف الدين بشتاك الناصري 1339م وسبيل محمد علي بالنحاسين ومتحف النسيج الذي أنشأه محمد علي باشا الكبير علي روح والده المرحوم إسماعيل باشا بعد أن مات محروقا ببلاد السودان.

كما شمل الترميم بقايا مدرسة الظاهر بيبرس البندقداري. ويذكر المقريزي أن هذه المدرسة كانت بالقصر الفاطمي الشرقي، ولم يتبق منها سوي جزء من الواجهة الجنوبية الغربية والمدخل الرئيسي وغرفة صغيرة من الإيوان الجنوبي الغربي، بالإضافة إلى ترميم قاعة محب الدين أبو الطيب بشارع بيت القاضي ويرجع تاريخ إنشائها إلي سنة 1350، وأنشأها الشيخ محب الدين الشافعي، بجانب ترميم مجموعة الغوري وتكية أبو الدهب.

يتابع عبد السلام: من بين ما شمله الترميم أيضا قبة الصالح نجم الدين أيوب، وأنشأتها الملكة شجرة الدر لزوجها الصالح نجم الدين أيوب قاهر الصليبين، بالإضافة إلى سبيل وكتاب خسرو باشا، وأنشأه خسرو باشا في 1535، بجانب المدرسة الصالحية كأول مدرسة أنشئت للمذاهب الأربعة، ومنشئها السلطان الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل.

وعمل مشروع الترميم على صيانة حمام إينال، الذي يعد من أهم الحمامات المملوكية وأنشأه السلطان إينال بن عبد الله في العام 1456م، بجانب المدرسة الكاملية ويرجع تاريخ إنشائها إلي السلطان الكامل محمد بن العادل الأيوبي.

والزائر للشارع يلاحظ 11 بوابة إلكترونية، تم إنجازها لأول مرة في المواقع الأثرية بشكل غير مسبوق لفتح وغلق الشارع، في الوقت الذي يمنع فيه دخول السيارات إلى الشارع من التاسعة صباحا وحتى الثانية عشرة ليلا، ليكون السير فيه قاصرا على المشاة فقط، باستثناء مركبات المطافئ وسيارات الإسعاف.

ولن يجد الزائر للمنطقة صعوبة في التعرف على تاريخ الشارع وآثاره، إذ سيجد نفسه أمام إدارة تتكون من أثريين متواجدين للإدلاء بأية معلومات عن الآثار، بالإضافة إلى توفير إدارتين للنظافة والأمن بشكل دائم، بعد الاتفاق مع شركة أمن متخصصة بتوفير 100 عامل لشارع المعز يعملون من خلال 3 دوريات علي مدار الساعة، وتوفير سيارتين لتنظيفه 5 مرات طوال اليوم حفاظا علي جمال الشارع وطابعه الأثري الفريد.