رقص بروح رقمية على إيقاع حفيف الخشب في بيروت

جيل جوبان: 40 دقيقة من الغرابة واللامعنى

مشهد من «البجعة السوداء» (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

اختتم «مهرجان الرقص المعاصر» يوم الخميس في بيروت بعرض إسباني، بعد أسبوعين كاملين من الحفلات اليومية، التي أحيتها فرق عربية وغربية متنوعة الرؤى، وحضور كثيف ولافت لجمهور من مختلف الأعمار، حتى ليتساءل المرء إن كان ما يراه حقيقة؟ وإن كانت كل هذه الجموع ترى في الرقص المعاصر ضآلتها؟ وما هو عنصر الجذب الأساسي لهؤلاء جميعا؟ أحد العروض الذي حرص كثير من مدمني المهرجان على عدم تفويته، قدمه السويسري المعروف جيل جوبان على «مسرح المدينة»، وهو يعتبر من المصممين المجددين المعروفين اليوم. وتحت عنوان «البجعة السوداء»، قدم الراقصون الأربعة عرضا بدا أقرب إلى الاسكتشات، التي تعتمد على عنصرين أساسيين: استنفار عضلات الجسد مع استعراض طاقاته الخزينة، والإبهار البصري الذي لا يوفر مادة أو إمكانية إلا ويستخدمها.

راقصتان دخلتا على المسرح، كل منهما منفردة في أول الأمر، ثم بدتا معا، مصممتين على أخذنا إلى رحلة في قدراتهما على تنويعات حركية لافتة، على إيقاعات موسيقية، ليست بالخلابة أو الجذابة، فهي أشبه بهدير أو صرير إلكتروني، الهدف منه جعلنا نركز على جسد الراقصتين، وتعميق الإحساس لدينا بحيويتهما، وهما ترقصان وقوفا أو تمددا على المسرح وبانحناءات في كل الاتجاهات. دخل شابان إلى الخشبة، كل منهما يلبس في كلا كفيه رأس أرنب، لا يبدل من نمطية المشهد كثيرا. فالأصوات الهادرة بتنويعاتها تبقي المشاهد في رتابة، غير أن تقنية جديدة أضيفت جعلتنا نشعر أننا ننتقل إلى مرحلة أخرى. فالرقص يتواصل ليتوقف فجأة على وقع صوت تهشم قوي لزجاج ينهمر. فنشعر وكأنما نحن أمام صورة فوتوغرافية تلتقط بعنف محطم. رؤوس الأرانب تسعف في جعل يدي كل من الراقصين قادرة على رسم لوحات متطايرة في الهواء، بفعل تحريك الأذرع بقوة وسرعة فائقتين. تتصاعد وتيرة المشهدية البصرية، حتى يشعر المتفرج أنه يتعرض للعبة تشويقية، تستمهله كلما استعجلها. الراقصون يدخلون ويخرجون إلى المسرح من فتحات جانبية ويعودون هذه المرة مع أحصنة متوسطة الحجم تنام على الخشبة لتبدأ تتدحرج تحت إنارة خافتة مع أجساد الراقصين، حتى نظنهم مع حيواناتهم تحت الضوء الخافت أكواما لبقايا مخلوقات أزهقت أو في طريقها إلى الفناء. إيحاء «أبوكالبتي» يصعب الربط بينه وبين المشاهد السابقة. وفي مقطع جديد تدخل إحدى الراقصتين، وبيديها قضيبان طويلان ورفيعان، يبلغ طول كل منهما أكثر من مترين، بعد أن خيم صمت تام وهدأ الهدير. هذه المرة الرقص سيكون على صوت حفيف العصي التي يتكاثر عددها بدخول الراقصين الآخرين، بعصيهم السوداء الطويلة. وهنا يبدأون معا برسم تشكيلات بواسطة هذه القضبان الكثيرة والطويلة، حتى تظنها تموجات الماء وهي تلمع تحت البروجكتورات الخافتة أو مجاديف تدفع بقوارب خفية في قلب اللجج. المشهد تجريدي، لكنه يطلق خيال كل متفرج في الاتجاه الذي يهواه.

فالرقص هنا ليس للجسد وحده بل للضوء واللون والعصي ورؤوس الأرانب. كل ما على المسرح يتحرك لكن من دون صخب أو استعجال. حتى نصل إلى المقطع الأخير الذي ستعاد خلاله الأحصنة إلى المسرح، لكنها ستنتصب وقوفا هذه المرة وستستخدم العصي لتحريكها بمهارة فائقة، من قبل الراقصين الأربعة، وفي كل الاتجاهات. لم يبخل جيل جوبان، هذا المصمم المعروف بروحه الإخراجية العالية، وتجديداته، وروحه التجريدية الحسابية، في أن يعرف الجمهور اللبناني على رؤيته، التي تندغم في مسيرة أوروبية طويلة وغنية بتجاربها العصرية الراقصة، ولها جمهورها الذي يتابعها ويتمتع بإبهارها. لكنه نوع من العروض عقلاني وإيحائي عالي التقنية، لا يزال يثير حيرة ما، لدى العرب الذين لم يعتادوه. فقد كان السؤال عند الكثير من الحاضرين عن المعنى الذي يربط الوجود الحيواني بالإنساني، والأرانب بالأحصنة، وماذا أراد أن يقول جوبان من هذه العصي التي أعطاها دور البطولة على المسرح. المخرج السويسري الشاب، يضحك لدى سؤالنا له مستفسرين ويقول، وهو يحتفل بعيد ميلاده في «مسرح المدينة» الذي صادف يوم العرض في بيروت: «لا أعتقد أنني أردت أن أقول شيئا معينا. نحن لا نحكي قصة، ولا نود توصيل رسالة. لم يكن في ذهني وأنا أصمم هذا العرض، إلا أن أعبر عن المفاجآت الحياتية التي تباغت الإنسان، دون أن ينتظرها». ولعل جوبان نجح في إيصال مشاعره، فقد تركنا لقدرنا ننتظر مفاجآته البصرية المتتالية، طوال أربعين دقيقة. مفاجآت مدروسة، محسوبة، بتقنيات عالية، حتى أنك لتتأكد أن صانع هذا العرض هو خلاصة عصره الرقمي، ولو كانت إيحاءات العرض كلها تشير إلى أنها تحتج عليه.