حملة سعودية كبرى لتوثيق الموروث الشعبي وحمايته من السرقة والتهميش

تشارك في تنفيذها جهات نافذة ومهتمون بالتراث

أطفال في رقصة العرضة السعودية («الشرق الأوسط»)
TT

تعيش المملكة العربية السعودية هذه الأيام حملة كبرى لتوثيق الموروث الشعبي، ومنه التراث العمراني، وإبرازه في المحافل العالمية. وقد تعززت الحملة، التي تنشط فيها جهات رسمية وذات صلة إلى جانب مختصين ومهتمين بالتراث، بموافقة خادم الحرمين الشريفين في مطلع هذا الأسبوع على تنظيم مؤتمر دولي للتراث العمراني الإسلامي.

الحملة التي تنفذها جهات مثل وزارة الثقافة والإعلام والهيئة العليا للسياحة والآثار تركز على شقين، وتبذل نشاطاتها وجهودها داخل المملكة وخارجها بهدف الاحتفاء بالتراث السعودي وتسجيله كإرث قومي لا يقل أهمية عن الموارد الأخرى. وأكد الدكتور بكر باقادر، وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الخارجية، لـ«الشرق الأوسط» في هذا السياق «أن المملكة، كبقية دول العالم، لديها مشهد ثقافي ثري، والتراث الشعبي هو أحد روافده القوية، إلا أنه عانى لفترات طويلة من تجميده في صورة نمطية لا تعكسه بوضوح، وربما كان هذا أحد الحوافز القوية على الحملة المكثفة التي تقوم بها جهات متعددة في المملكة لتوثيق التراث الشعبي وإبرازه».

وتابع باقادر «أن وزارة الثقافة والإعلام تسعى لتقديم صورة حقيقية وواقعية وحية عن المشهد الثقافي السعودي لتصحيح الصورة النمطية، خاصة تلك التي ترسخت عالميا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، والتي تحاول أن تظهر هذا الموروث والمجتمع على أنه ضد الثقافة، وضد الفنون، وهو الذي أنجب المتطرفين، وليس لديه إسهام في الفكر والثقافة والموروث الإنساني».

أبرز وأهم المشروعات التي تم اعتمادها لتنفيذ المهمة الشيقة لإظهار الموروث الشعبي السعودي خارج المملكة هو مشروع «الأيام الثقافية» التي تتبناها وزارة الثقافة والإعلام بالسعودية وتنظمها عبر العالم حاليا، وحول الدور الذي تلعبه هذه الأيام يقول باقادر: «لا تسعى الأيام الثقافية لتلميع الصورة النمطية، بل تسعى لتقديم المشهد الثقافي كاملا ليقلب الصورة الخاطئة رأسا على عقب، ويصحح الخطأ واللبس الحاصل، عن طريق إظهار الموروث الشعبي والتركيز عليه». ويضيف: «لقد نظمت الوزارة حتى هذه اللحظة 10 أسابيع ثقافية حول العالم، وفي 4 قارات، فكانت هناك فعاليات في أميركا الشمالية، والمكسيك، وأوروبا بضمنها روسيا، وعدد من دول أفريقيا وآسيا، منها السنغال وتونس والجزائر ومصر واليمن والبحرين وتركيا. وسنذهب ضمن خطة هذا العام إلى أميركا الجنوبية. وفي معظم «الأيام الثقافية» التي نظمناها كنا نرى ونسمع عن مدى انبهار الحضور والشعوب الأخرى بمظاهر التراث الشعبي، خاصة في ما يتعلق بالموسيقى والرقصات والأكلات الشعبية، والأزياء التقليدية». التراث الشعبي يتعرض للسرقة أيضا!! سبب آخر يزيد من حماسة القائمين على حملة توثيق التراث، إذ ليست الموارد المالية للشعوب فقط هي المهددة بالسرقة والنهب. بل التاريخ والتراث أيضا لم يسلما من التعرض للسطو بين الحين والآخر. والخلاف حول نسبة أكلات شعبية ورقصات فولكلورية معينة يختلف على نسبتها وأصلها وفصلها، أصبح في الفترة الأخيرة مادة صحافية دسمة. وحول هذا الجانب، يؤكد باقادر أن المملكة «تنبهت أخيرا إلى مثل هذه الممارسات، وسارعت إلى اتخاذ خطوات جدية وفعالة في مجال الحفاظ على التراث الشعبي بوصفه أحد الممتلكات الوطنية الأكثر أهمية. وثمة مبادرات الآن لتسجيل بعض الرقصات والأكلات الشعبية لدى منظمة اليونيسكو، بوصفها تراثا سعوديا عالميا وجزءا لا يتجزأ من الذاكرة الإنسانية». ويضرب مثلاً لذلك «رقصة العرضة النجدية» التي سيصار إلى اعتمادها قريبا كرقصة شعبية سعودية ضمن سجلات المنظمة الإنسانية.

وتابع باقادر «أن الغياب أو التقاعس عن فعل إيجابي يهتم بالتعريف بالتراث المحلي وإظهاره ليأخذ مكانته اللائقة إنسانيا وتاريخيا، من السلبيات التي تدفع البعض لتصيد الفرصة وتشويه صورة المجتمعات على هواه. وأضاف: «غيابنا عن الساحة وتأخرنا في تقديم أنفسنا بالشكل الصحيح أو الكافي سمح للبعض بأن يسبغوا على أنفسهم صفات من وزن «خبير بالشؤون السعودية» و«خبير بعادات السعودية»، وأن يقدموا آراءهم الشخصية جدا في هذا السياق كحقائق علمية ثابتة. وما هو مطلوب حاليا توثيق التراث والعمل لا لتحسين الصورة، بل لتقويض الصورة النمطية المزورة والجائرة في كثير من الأحيان وإحلال تراثنا الغني بدلا منها».

المرأة ضيف دائم الحضور في معارض التراث من جهة ثانية، يقول باقادر إن المرأة السعودية وعلاقتها بالتراث «قصة شيقة دائما الحضور في الأيام السعودية وتثير فضول معظم زوارها دائما». ويردف أن من التراث المغيب أيضا والذي يخضع لتأويلات مغرضة وغير واقعية، كل أنواع التراث التي تتعلق بالمرأة في السعودية، «فهناك صورة نمطية عن أن المرأة لدينا مهمشة وتعاني من الظلم الذي يمنعها من التعبير عن ذاتها ثقافيا وفنيا، وعليه، فقد تبنت الوزارة برنامجا آخر يسمى برنامج تمكين المرأة السعودية ثقافيا، وهو مشابه كثيرا لفكرة الأيام الثقافية، حيث نرسل وفودا إلى دول مختلفة معظم أعضائها من السيدات السعوديات لعرض الموروث الشعبي والثقافي الخاص بالمرأة ومن وجهة نظر المرأة. وبالفعل أقمنا مثل هذه النشاطات في تونس والمغرب والسويد والأردن.. وقريبا ستكون هناك رحلة للعاصمة الإسبانية مدريد، وأخرى للعاصمة البلجيكية بروكسل».

وإلى جانب الفنون والتفاصيل التراثية المتعلقة بالمرأة، تتضمن «الأيام الثقافية» معرضا متجولا ومكثفا لعناصر الموروث الشعبي في السعودية، فتقام على هوامشها عروض للملابس التقليدية من مختلف أنحاء المملكة، والتقاليد الخاصة بالضيافة، والمطبخ السعودي، والفنون الشعبية سواء كانت موسيقية أو محكية، أو مرئية. ويلفت باقادر إلى أن «هناك أيضا معارض عن النخلة وثقافتها ورمزيتها في الموروث السعودي، وعن الحرمين، والتراث العمراني، وأوجه التنمية في الصحراء، والبادية ورمزيتها، والآثار، والفنون التقليدية. ولدينا طموحات كبيرة في هذه المجالات، ونحن ننسق ونتعاون مع جهات عديدة ومختلفة من ضمنها الهيئة العليا للسياحة، والجامعات». ويعلل باقادر التركيز على إظهار التراث في المحافل الخارجية بقوله إن السعوديين يعيشون هذه التقاليد يوميا، وهي متجذرة في حياتهم ويعرفونها جيدا، لكن ما ينقصها هو إطلاع الآخرين عليها.

توثيق التراث هم رسمي وشعبي: غير أن الهمّ الدافع إلى توثيق وإحياء الموروث الشعبي في السعودية ليس همّا رسميا فحسب، لأن هذا الأمر مهمة تشغل بال العديد من المهتمين، كما يقول الدكتور زاهر بن عبد الرحمن عثمان، رئيس مؤسسة التراث الخيرية، الذي يؤكد «أن الحرص على هذا التراث المتنوع والحي والجميل كان دافعا لتحرك واسع على المستويين الرسمي والشعبي، وهو ما أثمر نتائج إيجابية واضحة على أرض الواقع». ويبدأ عثمان كلامه بالإشارة إلى «ما يمثله المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) من أهمية في هذا المجال، فهو، وإن كان مبادرة رسمية قوية صنعت لها اسما ومكانة مرموقة عبر السنوات التي أقيمت فيها الفعالية التراثية السعودية الأبرز، إلا أن الإقبال الجماهيري عليها والمشاركة الواسعة فيها يوفران مؤشرات واضحة على الاهتمام الشعبي والرسمي بالتراث، والحرص على المحافظة عليه».

ويضيف عثمان: «ويعد تأسيس الهيئة العليا للسياحة تحولا واضحا في هذا الميدان، لأن منظورها للتراث تركز في أنه جزء أصيل في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وأنه مورد اقتصادي كبير، وعنصر من أهم عناصر الحفاظ على البيئة. ولأهمية تكامل الرؤية وتركيز الجهود للحفاظ على التراث، أضيف قطاع الآثار إلى الهيئة لتصبح الهيئة العامة للسياحة والآثار، وهذه خطوة مهمة تؤكد تنامي الوعي بأهمية اتخاذ خطوات عملية، وفق منظور شامل ورؤية علمية ومنهجية، مع الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى، التي سبقتنا في هذا المجال». وعلى مستوى المبادرات الخاصة في مجال الحفاظ على التراث الوطني، هناك أمثلة كثيرة، يشير عثمان إلى واحدة منها بشكل خاص، هي تجربة مؤسسة التراث الخيرية، التي يرأسها، ويقول: «بحكم معايشتي لها منذ أن كانت فكرة للأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، وعلى مدى السنوات الماضية، كان للمؤسسة دورها في الحفاظ على التراث. ففي مجال التوثيق التاريخي أنجزت المؤسسة مشروع الأرشيف الوطني للصور التاريخية لمصلحة مكتبة الملك فهد الوطنية، وأرشيف الأمير سلطان بن سلمان للصور لمعهد العاصمة النموذجي التاريخي، وأرشيف صور الملك خالد. كما تقوم المؤسسة بتنفيذ البرنامج الوطني للعناية بالمساجد العتيقة تحت إشراف وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد. وقامت ـ وتقوم ـ في هذا الإطار بإعادة تأهيل وترميم عدد من المساجد في مناطق المملكة المختلفة. وتسهم في توثيق المباني التاريخية، وترميمها وفق معايير فنية عالمية، ومن هذه المباني قصر شبرا التاريخي في الطائف، وقصر الملك عبد العزيز بالدوادمي، ومدرسة الهفوف الابتدائية، ومحطة سكة حديد الحجاز في المدينة المنورة، وغيرها». أيضا من نشاطات المؤسسة، إصدار الكتب ذات الصلة بالتراث، سواء التراث السعودي أو العربي أو الإسلامي أو الإنساني، إلى جانب ترجمة الكتب التي تتناول التراث بمختلف أوجهه، وتنظيم المعارض والندوات، والمؤتمرات، والمحاضرات، وورش العمل والدورات التدريبية التي لها علاقة بالتراث داخل المملكة وخارجها، وأخيرا تنظم المؤسسة جائزة الأمير سلطان بن سلمان للتراث العمراني، بهدف الاعتناء بهذا التراث، وتشجيع المبدعين والمختصين فيه.