«حرب النجوم» موسيقيا.. يحول قاعة قبة الألفية إلى ساحة حرب «حقيقية»

«رويال فيلورمونيكا» البريطانية تبدأ سلسلتها من لندن لتنتقل إلى مدن أوروبية وأميركية

اسم الفيلم هو نفس الاسم الذي استخدمه الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان لبرنامجه العسكري الذي أرعب به الاتحاد السوفياتي أوائل الثمانينات («الشرق الأوسط»)
TT

كانت لندن نقطة انطلاق لجولة موسيقية، ستقوم بها فرقة «رويال فيلورمونيكا» البريطانية، في عدد كبير من المدن الأوروبية والأميركية، ولهذا الغرض احتضنت قاعة «أو 2 أرينا» في جنوب شرقي لندن حفلتين في هذا الشهر.

تم اختيار هذه القاعة لأنها الأكبر من حيث السعة والحجم في أوروبا، وهي جزء من مجمع ترفيهي عملاق، أنفقت الحكومة البريطانية عليه نحو مليار دولار استعدادا لاستقبال الألفية الثانية، لكن فشله تجاريا لاحقا دفعها إلى بيعه لشركة «أو 2» المتخصصة بصناعة التسلية والهواتف النقالة.

وفي يوم العرض تدفق الآلاف الذين تمكنوا من شراء تذاكر الحفل الغالية الثمن صوب هذا المركز، وفي داخله كانت هناك طوابير طويلة تنتظر دورها للدخول إلى قاعة العرض، وبالمقابل انتشر جيش من المضيفين لبيع المجلة الخاصة بالعرض بسعر خيالي أو لتقديم المعلومات أو لاقتياد الأطفال المسحورين بـ«حروب النجوم»، والذين أفلتوا من أيادي آبائهم وضاعوا في هذه اللجة التي لا بداية ولا نهاية لها. كان ممكنا أن تجد هنا وهناك رجالا أو نساء يصرخون عاليا بأسماء الصغار المفقودين.

كان هذا الانجذاب الشديد داخل المركز متأتيا أيضا عن وجود معرض خاص بملابس أبطال «حروب النجوم» والقطع المختلفة التي استخدمت في سلسلة الأفلام الستة التي ظهرت على الشاشة ما بين عامي 1977 و2005. كذلك كان ممكنا شراء نماذج من الملابس والسيوف الضوئية الشهيرة، لذلك لم يكن غريبا أن تلتقي بصبيان يرتدون ملابس المقاتلين الحكماء المعروفين باسم «الجداي» أو أقنعة للبطل الذي تحول إلى الشر «دارث فيدر» وفي أيديهم سيوف تتوهج بالضوء الملون. ولم تكن تلك العروض مقتصرة على الصبيان، بل هناك عدد كبير من الشباب ممن أصيبوا بحمى «حروب النجوم» وهوسها، ارتدوا هم أيضا ملابس أبطال هذا المسلسل، فهناك ثياب مماثلة لما ارتداها الأبطال الشهيرون مثل: أونيكان ستار ووكر (أونيكان الماشي في الفضاء)، ولوك ستار ووكر، وماستر أوبي 1 كنوبي، ودارث فيدر بعلامته الفارقة: «القناع الأسود» الذي يسمح له بتنفس هواء اصطناعي.

في الطوابير الطويلة كنت تجد أعدادا كبيرة من الصبيان برفقة آبائهم وهم مسحورون بهذا الجو العاصف بالدهشة والفضول. حتى مع غياب فكرة واضحة عما سيقدم فكانوا مسحورين بفكرة سماع موسيقى حية ظلت تترجع عبر حوادث خارقة للخيال خلال ثلاثة عقود، عن حروب ومعارك تدور، لا على مستوى كوكب واحد، بل على مستوى «مجرة» بأكملها. فإذا كانت تلك المجرة المكونة من عدد كبير من الكواكب والنجوم قد نجحت في تشكيل نظام جمهوري يسيره الحكماء «الجداي» والشبيه بجمهورية أفلاطون، فإن قوى الظلام تتحرك تدريجيا للتآمر على هذا النظام الراقي، فتحل المعارك والحروب التي تقود إلى سيطرة هذه القوى الشريرة على المجرة وتشكيل «إمبراطورية المجرة» Galactic Empire.

بعد صعود طابق والمضي في رواق عريض تمتد على يساره الأبواب، وبعد التمعن في أرقامها ستصل إلى المنفذ الخاص بك، ومن هناك ستدخل إلى قاعة فسيحة لم ترَ مثيلا لها. قد لا تكون كلمة «قاعة» مناسبة لها، فهي أقرب إلى ملعب واسع يشبه كثيرا المسارح الإغريقية. الفارق الوحيد أن هناك عددا هائلا من الصفوف المستوية في الوسط والمحاطة بأخرى تتدرج في صعودها من كل الجهات. كانت القاعة غاصة تماما بالحضور. هل يمكن القول إن هناك 30 ألف مشاهد يتابعون بشغف شديد الدقائق القليلة المتبقية على العرض؟ بالمقابل راح أزيز الطائرات الوهمي والانفجارات الصوتية المتلاحقة تهيئهم للبدء بالعرض، كذلك راح العديد من الشباب المبتهجين يتبخترون بملابسهم وسيوفهم وهو يقلدون أشخاصا بارزين في ملحمة «حروب النجوم».

اتبع مؤلف الموسيقى التصويرية لهذا المسلسل، جون وليامز، طريقا اختطه قبله الموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر في أعماله الأوبرالية، إذ اتبع الأخير أسلوبا جديدا سمي بالليموتيف، وفيه يقرن كل شخصية أو حدث بحالة شعورية موسيقية تجسدها الجملة الموسيقية الأساسية وما يتنامى حولها من جمل أخرى، ولذلك أصبح سهلا على المتلقي تشخيص الأفراد أو الحدث عبر ما تثيره هذه القطعة أو تلك من حالة شعورية في نفس المتلقي. وهذا الأسلوب في التأليف الموسيقي انتقل من الأوبرا إلى السينما حيث انتشر بين مؤلفي الموسيقى التصويرية للأفلام خلال الثلاثينات من القرن الماضي، خصوصا لدى موسيقيين كبار مثل ماكس شتاينر واريك كورنوغول، واستمر هذا التقليد متبعا حتى بزوغ نجم الموسيقار جون وليامز الذي حصل على جائزة الأوسكار للموسيقى التصويرية عام 1971 عن فيلم «عابث فوق السطح»، وأعقبته نجاحات كثيرة حققها وليامز، حيث تجلت براعته في خلق مناخ الخوف في فيلم «فكان» للمخرج سبيلبرج، وفيه نشاهد سمك قرش عملاقا يدفع بالسابحين من البحر، وحقق ذلك الفيلم المنتج عام 1975 نجاحا كبيرا وساهمت الموسيقى بدور كبير في خلق مناخات التوقع والخوف والأمل.

في مسرح «أو 2 أرينا» تتواجه مع مد هائل من الأشخاص الجالسين، وقد ينتابك شعور بالخوف لفكرة وقوع حادث ما داخل هذا الملعب الهائل، حتى مع وجود جحافل المضيفين الذين ظلوا حتى اللحظة الأخيرة يعرضون المرطبات ومجلات حروب النجوم المخصصة لهذه المناسبة.

أمام المتفرجين انتصبت شاشة فيديو يصل ارتفاعها إلى 100 قدم، وعند قاعدتها توزع العازفون من فرقة «رويال فيلورمونيكا» على مقاعدهم مشكلين صفوفا عديدة تضم 150 موسيقيا، كذلك وفي محل ما قبع الكورس الذي كان صوته يصعد إلى أعلى في لحظات حاسمة من الصراع بين قوى الخير والشر.

تمت ولادة فكرة هذا المشروع بعد عرض آخر فيلم من مسلسل «حروب النجوم» عام 2005 والذي يحمل عنوان «انتقام سيث». إذ اتصلت شركة «أنذر بلانيت» (كوكب آخر) لصناعة التسلية بالشركة المنتجة «لوكاش فيلم» وطرحت مشروع تنظيم هذا الحفل تحت عنوان «حروب النجوم: رحلة موسيقية». وحالما وافق صاحب الشركة المنتجة ومبدع قصص أفلام المسلسل بأكملها بدأت الكرة بالحركة. وافق المؤلف الموسيقي جون وليامز على إعداد سويت (مجموعة) من قطع موسيقية منتقاة من الأفلام الستة، وبين كل قطعة وأخرى هناك حكواتي يسرد قصة هذا البطل أو ذاك، وهذه الحادثة أو تلك. بعد أن أعد وليامز الموسيقى بدأت الخطوة الثانية، وهي إعداد مقتطفات من الأفلام تتواكب مع كل قطعة موسيقية. فهناك شريط من اللقطات المنتقاة المخصصة لبطل ما، وهناك أحداث درامية بارزة. وعلى ضوء الزمن الذي تستغرقه كل قطعة موسيقية تم تحديد زمن الشريط المعروض المنعكس على شاشة الفيديو العملاقة، كذلك جلب وليم دانيلز أحد الممثلين البريطانيين الذي أدى دور الروبوت الذهبي «سي -3- بي أو» ليقوم بدور الحكواتي.

في النصف الأول من العرض الذي امتد لساعة ونصف الساعة تركزت الموسيقى لتضيء مسار الأحداث والشخصيات في الأفلام الثلاثة الأولى التي أنتجت ما بين عام 1977 و1983، وهي تبين صعود جمهورية المجرة واندحار الشر، وفي النصف الثاني الذي تلا الاستراحة خصص الوقت للأفلام الثلاثة التي أنتجت ما بين عامي 1999 و2005 وهي تسعى إلى تقديم منشأ الصراع، أي هي تسبق الأجزاء الأولى.

موسيقى مدهشة تمتلئ بكل العناصر العاطفية المتنوعة، لكن مفعولها يتضاءل مع شريط المقاطع المنتقاة من الأفلام، مما يجعل المتلقي بين عالمي الصوت والصورة بين جموح الخيال البصري وجموح الخيال الصوتي.

وحينما انتهى العرض كان ممكنا قراءة قدر من الصدمة في أعين الصغار، فهذا المسلسل الشديد الطفولية في مغامراته وشطحاته بعيد كل البعد عن قدرة الأطفال للتعامل مع إيقاعه والقدر الهائل المستخدم من المؤثرات البصرية والصوتية. إنه موجّه أكثر للكبار لإيقاظ الطفولة فيهم في أحسن الأحوال.

هذه العروض القليلة التي قدمت في لندن هي مجرد خطوة نحو سلسلة لا حد لها من الحفلات الموسيقية المماثلة لها في مدن أوروبية وأميركية كثيرة.

كل ذلك يسير جنيا إلى جنب مع بروز كم هائل من الألعاب المرتبطة بـ«حروب النجوم»، سواء الرقمية أم اليدوية. إضافة إلى بدء جون لوكاش بالعمل على تحويلها إلى كرتون يقدم عبر شاشات التلفزيون الأميركي لتنتقل لاحقا إلى العالم بأجمعه.

يبقى شيء واحد يستحق التذكير به: كان عنوان الفيلم هو الذي استخدمه الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان لبرنامجه العسكري الذي أرعب به الاتحاد السوفياتي خلال أوائل الثمانينات، ودفع برئيسه الأسبق غورباتشيف للتوقيع على اتفاقية اعتبرت أول خطوة استسلام ومهدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي.

بعد انتهاء العرض راح الجمهور يمضي في طرق مفتوحة لا نهاية لها، متجها صوب محطة المترو في تلك المنطقة النائية من جنوب غربي لندن. وقد يشعر المرء بقليل من التفاؤل، فهؤلاء الذين دفعوا مبالغ كبيرة لعرض ضخمته مضخة الإعلان أثبتوا حقيقة بسيطة: الركود الاقتصادي لم ولن يصل إلى صناعة التسلية. إنها علامة العصر الذي نعيش فيه.