سور برلين لا ينساه التاريخ

الكثيرون من سكان المدينة تمنوا لو ترك جزء منه كنوع من الذكرى التاريخية

بدأت ألمانيا التحضير للاحتفال بالذكرى العشرين لسقوط سور برلين التي تواكب التاسع من نوفمبر المقبل (واشنطن بوست)
TT

بعد انقضاء عقدين من الزمن على سقوط سورهم صاحب السمعة السيئة، الذي قسم مدينتهم، يشعر بعض سكان برلين ببعض الأسى تجاهه. تواثب الألمان فوق السور في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) لإزالة حاجز الكراهية، الذي يواجه زوار العاصمة وقتا عصيبا للبحث عن أي أثر له، وحاول سكان المدينة خلال السنوات التالية تجاوز ذلك الفصل المؤلم من تاريخ برلين والتركيز على بناء مدينة جديدة لقرن جديد.

بيد أنه مع تهيؤ ألمانيا للاحتفال بالذكرى العشرين لسقوط سور برلين، التي تواكب التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني)، تمنى الكثيرون من سكان برلين لو أنهم تركوا الكثير من السور كنوع من الذكرى التاريخية.

وقال بورخارد كيكر، مدير مكتب السياحة في برلين، والذي حاول على مدار سنوات إقناع المدينة للقيام بجهد أكبر لإحياء ذكرى السور: «هناك تاريخ تحت كل حجر في برلين، وكان أحد أكبر الأخطاء التي قمنا بها، إزالة جزء كبير من السور، ولقد قمنا بالأمر بصورة ألمانية تماما، منظمة جدا، وانتهينا منه وقد أوشكنا على ذلك تماما». وبعد سنوات من الرفض، بدأ مسؤولو المدينة في الاقتناع بإحياء ذكريات الحرب الباردة بدلا من دفنها، حيث تقوم السلطات الآن بتجديد جزئين متداعيين من السور نجيا من الهدم، إضافة إلى مركز للزوار ومعارض أخرى، كما يخططون لإنشاء متحف للحرب الباردة بالقرب من نقطة تفتيش تشارلي، نقطة العبور الحدودية التي كادت أن تشهد معركة بين الدبابات الأميركية والسوفياتية عام 1961، في أعقاب بناء السور من قبل حكومة ألمانيا الشرقية الشيوعية لمنع مواطنيها من الفرار إلى الغرب.

وقال رانير كليمك، المشرف على العديد من المواقع الأثرية في برلين: «النصب التذكارية والمواقع الأثرية في أية دولة ديمقراطية بحاجة إلى النمو والنضوج وإلى فهم جماهيري للتطور عبر الزمن واكتساب القبول. والمشكلة التي نواجهها والتي تجعل الأمور بالنسبة لنا صعبة هي أننا لا نحتفل بانتصاراتنا، وأننا نحتفل بأعمال مخزية ارتكبت من قبل».

إلى ذلك، يشهد السور إقبالا شعبيا كبيرا، حيث يقوم الجمهور بتتبع مسار سور برلين عبر التنزه سيرا على الأقدام أو ركوب الدراجات في الممر الذي اكتمل بناؤه في عام 2006 واتباع تعرجات السور الذي يطوق برلين الغربية على امتداد 96 ميلا. وقد بدأت استعادة ذلك السور في القطاع الأطول المتبقي من السور والذي يعرف بمعرض الجانب الشرقي والذي يمتد لميل على طول نهر سبري.

لا تزال هناك بعض النقاشات، التي يمكن أن تعكر صفو الطريقة التي يجب بها تذكر سور برلين، حيث عبر العديدون من سكان ألمانيا الشرقية السابقين عن استيائهم من السيطرة الثقافية والسياسية للغرب على بلدهم، بينما يقول سكان الشطر الغربي إنهم ضجوا من ميل نظرائهم الشرقيين إلى المبالغة في حنينهم إلى فترة الشيوعية.

وعلى الرغم من إزالة أجزاء كبيرة من السور إلا أن الكثيرين من سكان برلين لا يزالون يعانون من مرض يشتهر باسم «ماور إم كوف» أو «سور في الرأس». ويشير المسح الذي أجري العام الماضي، وقامت به جامعة برلين، إلى أن 12 في المائة من سكان شرق ألمانيا و11 في المائة من سكان غربها قالوا إن المدينة كانت ستكون أفضل حالا لو أن الجدار لم يهدم.

وقد واجه القادة الذين يشجعون حملة إحياء ذكرى السور معارضة قوية، وأشارت ألكسندرا هيلدبراندت، مالكة المنزل الذي يقع على نقطة تفتيش تشارلي، والذي يعمل الآن كمتحف خاص اجتذب 850,000 زائر العام الماضي، إن المعارض تثير سياسيي ألمانيا الشرقية السابقين الذين لا يرغبون في أن ينظر إلى الجدار على أنه قوة شريرة.

وقالت: «لقد حاول بعض الأشخاص إغلاق متحفنا باستخدام أي نوع من الوسائل المتاحة، وأنا لا أعرف السبب وراء ذلك. حقا أنا لا أعرف السبب فنحن نعرض الحقيقة، وهم لا يحبون الحقيقة».

وكانت هيلدبراندت قد أثارت حفيظة الكثيرين عام 2004 عندما قامت بتثبيت عدد كبير من الصلبان البيضاء في قطعتين خاليتين من الأرض على الجانب الشرقي من نقطة تفتيش تشارلي لإحياء ذكرى الأشخاص الذين قتلوا خلال محاولتهم العبور من الشرق إلى الغرب. قام مسؤولو المدينة بإزالة تلك الصلبان بعد ثمانية أشهر من وضعها معللين ذلك بأنها لم تتقدم للحصول على تصريح بذلك.

ويتهم الألمانيون الشرقيون هيلدبراندت بتبلد الحس، فيما اتهمها آخرون بالبحث غير المتقن قائلين إنها ضخمت من أعداد القتلى، لكن هيلدبراندت اتهمت المدينة بمحاولة قتل الماضي. وقد سخرت هيلدبراندت خلال المقابلة التي أجريت معها من محاولات المدينة الاحتفال بالذكرى العشرين عبر إسقاط صف بطول ميلين من أحجار الدومينو. وقالت سيقول الشباب حسنا لقد كان سور برلين كأحجار الدومينو، كل ما عليك هو أن تدفعها وسوف تتداعى جميعها.

كما أن هناك نزاعا محتدما آخر في مراكز برلين حول النصب التذكاري لتوحيد شطري ألمانيا الشرقية والغربية عام 1990. وقد وافق البرلمان الفيدرالي على إقامة النصب التذكاري منذ عامين وخصص له مبلغ 20 مليون دولار لإنشائه لكن اللجنة الحكومية المضطلعة بالمشروع رفضت أكثر من 500 تصميم مقترح ولم تستقر على المكان الذي سيقام عليه.

وقال ماركوس ميكل، الناشط الديمقراطي الذي عمل من قبل كوزير لخارجية ألمانيا الشرقية بعد سقوط الشيوعية، إن الكثيرين من سكان برلين الذين حاربوا من أجل استعادة حريتهم مستاؤون من تهميش دورهم.

وأشار إلى أن التأريخ الشعبي لانهيار السور تشكل من قبل السياسيين في الغرب والذين منحوا أنفسهم المصداقية للقيام بذلك. وقال إنهم تجاهلوا الحركات التي ناضلت لنيل الديمقراطية خلف الستار الحديدي.

وقال ميكل، الذي يعمل الآن كعضو في البرلمان والمسؤول عن متحف الحرب الباردة المزمع إنشاؤه: «هناك الكثير من الخلط وسوء الفهم حول تلك الفترة في ألمانيا، ففي أميركا، على وجه الخصوص، يقولون لقد فزنا بالحرب الباردة، لكن ذلك لم يكن انتصارا للغرب على الشرق بل كان انتصار الحرية والديمقراطية في الشرق».

عندما بدأ سكان برلين في هدم السور بفرح بالغ منذ عقدين مضيا، كان القس مانفيد فيشر واحدا من بين الأشخاص الذين طالبوا بضرورة الحفاظ على بعض أجزاء منه.

لم يكن فيشر، القس اللوثري، الذي ينتمي إلى حي فيدنغ في برلين الغربية، ممن يكنون الحب للسور، فقد أجبرت طائفته على التخلي عن كنيسة المصالحة عام 1961 عندما بنت السلطات الألمانية الشرقية السور حولها وترك الكنيسة في وسط قطاع الموت، تلك المنطقة بين الحدود الداخلية والخارجية.

بيد أن فيشر قاد المحتجين عام 1990 لمنع البلدوزرات من هدم السور في شارع برنوار، وذكر الناس بأن جيل ما بعد الحرب من الألمان كانوا يسألون آباءهم عن السبب وراء وصول النازي إلى السلطة، لكنهم لم يواجهوا سوى الإنكار أو نصف الحقيقة أو الصمت.

وقال: «لو أزيل كل شيء فلن يكون لدينا دليل مادي على ما حدث، ولكي نفهم ما حدث لا بد من وجو شيء ملموس».

وقد أثارت جهود فيشر الغضب من كلا الجانبين في شارع برنوار، فقد اشتكى مدير دار التمريض المواجهة للسور في برلين الغربية من أن ذلك قد يحبط مرضاه إذا ما داوموا على النظر إلى السور.

وكانت أكثر المعارضات حدة تلك التي تبنتها كنيسة صوفي ميموريال، المقامة على الجانب من الخط الفاصل حيث شطر السور مقبرتها التاريخية التي تضم مقابر جماعية لأفراد سقطوا في الحرب العالمية الثانية.

قاد الأب جوناس هيلدبراندت، راعي كنيسة صوفي ميموريال تشيرش، حملة كبيرة لهدم السور ووقع أكثر من 5,000 شخص على طلب دعما لموقفه. وقال أكسل كلاوسمير، مدير مؤسسة سور برلين، وهي مؤسسة غير ربحية مخصصة للحفاظ على تاريخ السور: «كان السور ممقوتا من قبل الألمان، فقد شطر الدولة، وآلمها، وكان رعبا للجميع. لقد سقط على جانبيه الكثير من الضحايا، سواء كقتلى أو سجناء نتيجة للنظام الذي يمثله السور. لذا يود الألمان التخلص منه هنا لأسباب معقولة جدا».

وقد قرر مسؤولو المدينة، بعد أعوام من الجدال، ترك السور قائما أمام بنايتين من شارع برنوار، وخصصوهما كنصب تذكاري شعبي، لكن الشعور العام بالغضب استمر في التأجج، حيث اعتبر أفراد كنيسة صوفي ميموريال تشيرش ذلك النصب التذكاري أمرا قبيحا يؤذي الأبصار. وقد انتقد الكثيرون من الغربيين عدم وجود المتاحف التعليمية، واستمر السياح في تحطيم أجزاء السور رغبة في الحصول على هدايا من السور.

وقد أقرت المدينة بالحاجة إلى تصميم نصب تذكاري في شارع برنوار، لكن الأمر تطلب ثلاثة أعوام للتوصل إلى تصميم يتماشى مع الحي.

وسوف تضم النسخة الجديدة، مركزا للزوار ومعرضا خارجيا يضم صورا لـ 136 شخصا قضوا نحبهم وهم يحاولون عبور السور بين عامي 1961 و1989، كما سيسمح لكنيسة صوفي ميموريال تشرش بالحفاظ على مقبرتها.

ومن المتوقع أن يتم افتتاح النصب التذكاري الجديد، الذي يجري إنشاؤه حاليا، خلال عام 2011 ويتوقع مسؤولو المدينة أن يجذب أكثر من مليون سائح سنويا.

وأعرب فيشر القس اللوثري عن سعادته، وقال إن سكان حيه يشعرون بالفخر بوجود بقايا من السور في حيهم».

وقال: «لا يمكن للأشخاص الحصول على القدر الكافي منه، وقد تمنوا لو أنه كان بطول شارع برنوار».

* خدمة واشنطن بوست خاص بـ«الشرق الأوسط»