العربية تتراجع لمصلحة الإنجليزية في مدارس لبنان

لغة الضاد عبء ثقيل؟

يجد التلاميذ في المراحل الدراسية المتقدمة صعوبة في التعبير عمّا يجول في أفكارهم باللغة العربية الفصحى رغم التلقائية التي يتمتعون بها في التعبير باللغة الأجنبية (أ.ف.ب)
TT

من ألفها إلى يائها صارت اللغة العربية عبئا ثقيلا على تلاميذ المدارس في لبنان. هذا الواقع المؤسف بات ينعكس في المجتمع اللبناني، السائر نحو «العولمة اللغوية» التي تحيط الأولاد من كل حدب وصوب في يومياتهم العائلية والمدرسية، وحتى الترفيهية منها، وهذا من دون أن يغيب عن البال توق بعض الأهل إلى ما يعتبرونه «رقيّا وتميزا» باعتماد اللغة الأجنبية والابتعاد عن العربية التي يعتبرونها «لغة العامة». أما المدارس فلها فلسفتها التجارية الخاصة في التعامل مع هذا الموضوع، وهي أن عامل الجذب الأساسي الذي تعتمد عليه الإدارات لشهرة مؤسساتها والدلالة على رفع مستواها يرتكز في نواح كثيرة على المستوى المتقدم في تدريس اللغة الأجنبية وعدم التركيز على العربية التي تضعف «هيبة المدرسة» و«مكانتها في الأوساط المدرسية».

كذلك لا بد من الإشارة إلى انحسار الإقبال على القراءة، وتأثير الإعلام والتقنيات الحديثة والفنون من غناء وأفلام على ما يألفه التلميذ ويرغب في تعلمه من دون غضاضة أو شعور بالإرغام.

كل هذه العوامل اجتمعت لتشكّل عائقا أمام تقدم الأولاد في لغتهم الأم، وتدفعهم إلى تفضيل اللغة الأجنبية التي يجدونها سهلة بعيدة عن التعقيد. الدكتورة إلهام كلاّب البساط، المتخصصة في علم الاجتماع، تحصر الأسباب الكامنة وراء رفض الأولاد اللغة العربية «في عوامل عدة، أهمها، صعوبة اللغة في حد ذاتها، واعتماد المواد المعقدة لإيصال الرسالة بما تتضمنه من محتوى مثقل بالوعظ الأخلاقي الذي لا يجذب الطفل. إضافة إلى التفكير السائد، وفيه شيء من الصحة، أن تطور العلوم يأتي من الغرب، متناسين أن الانطلاق إلى العالم يتطلب أولا التجذر في التراث الوطني». وتعتبر «أن الأجيال الثلاثة الأخيرة تجد صعوبة في تقبل اللغة العربية نظرا إلى تعقيد قواعدها والطريقة التي تدرّس بها والتي لا تزال المدارس تعتمدها في تقديمها المعلومات للتلاميذ». وتقول: «علينا تعليم التلاميذ اللغة الوسطية المبسطة، بين الفصحى والعامية، وعندها لن يجدوا اللغة خشبية بعيدة عنهم». وتشير إلى ضرورة «الاستماع إلى الأطفال في مجتمعاتنا لنكتب لهم عن اهتماماتهم وكل ما هو قريب من تفكيرهم وهواجسهم ومن حياتهم اليومية، والابتعاد عن المفاهيم القديمة والتقليدية الموجودة في الكتب».

أما منسق اللغة العربية في عدد من المدارس اللبنانية جوزيف يزبك، فاعتبر «أننا في لبنان والعالم العربي نعيش عصر الانحطاط اللغوي بعدما وصلنا إلى عصر النهضة». ويقول: «المشكلة تكمن في أنها ليست نفعية ولا آفاق مهنية لها ولا يستفيد منها إلا من سيتخصص بها أو في الحقوق أو في أي مجال آخر له علاقة مباشرة بها، وهذا ما يفكر به الأهل والتلاميذ على حد سواء». ويضيف يزبك: «تنحصر قيمة هذه اللغة في مصدرها الحضاري والثقافي، بعيدا عن أي فائدة قد يستفيد منها التلاميذ في حياتهم اليومية، الأمر الذي جعلها تصنف درجة ثانية في حياة المتعلم الذي يكتفي بفهمها والتكلم بها من دون بذل جهود أخرى لتعلم كتابتها وفق الأصول اللغوية». وتؤكد سوسن، وهي مدرسة لغة عربية في إحدى مدارس لبنان، الصعاب التي تواجهها لمساعدة التلاميذ في استيعاب لغتهم. وتقول: «ألاحظ انخفاض معدل العلامات في مواد اللغة العربية بشكل عام مقارنة بالعلامات التي يحصلون عليها في مواد اللغة الأجنبية. وهذا سببه بالدرجة الأولى أن نظام المدرسة لا يدخل مادة اللغة العربية في برامج سنوات الدراسة الأولى ويبدأ باعتمادها في الصف الأول الابتدائي. من هنا، يجد التلاميذ في المراحل الدراسية المتقدمة صعوبة في التعبير عما يجول في أفكارهم باللغة العربية الفصحى رغم التلقائية التي يتمتعون بها في التعبير باللغة الأجنبية. وهذا ما تؤكده شكاوى الأهل الذين يأتون إلينا متذمرين من كره أولادهم للغة العربية التي يعتبرونها صعبة، الأمر الذي أدى إلى زيادة الطلب على المعلمين الذين يعطون دروسا خصوصية في اللغة العربية، بعدما كان الطلب ينصب على اللغة الأجنبية. مع العلم أن هؤلاء أنفسهم لا يتكلمون مع أبنائهم إلا اللغة الأجنبية، ويلقون اللوم على المدرسة!».

وتضيف: «وفي الوقت عينه نجد أن عددا كبيرا من الأهل لا يولون هذه اللغة أهمية، ولا يعتبرون قلة إجادة أولادهم لها مشكلة، عازين الأمر إلى أن الحياة في لبنان وفي العالم بشكل عام لم تعد بحاجة إلى أكثر من فهم اللغة والتكلم بلهجتها العامية، بينما الأهم هو إتقان أكبر عدد من اللغات الأجنبية». عودة إلى الدكتورة البساط، التي ترى أن المشكلة لا تكمن في التركيز على اللغة الأجنبية، بل الأهم هو عدم إلغاء اللغة العربية والاستغناء عنها. وتضيف: «كذلك علينا أن لا ننسى أن الأولاد باتوا محاصرين باللغة الأجنبية التي تطغى على كل وسائل الاتصال، الأمر الذي جعل الهرمية المعرفية تنقلب رأسا على عقب، وأصبح الأولاد يقدمونها لأهلهم بعدما كانوا يتلقونها منهم، الأمر الذي يجعل مهمة أولياء الأمور تحتاج إلى جهد في ترسيخ اللغة العربية في أذهان أولادهم، وبالتالي الاعتماد عليها. وهم بذلك يستطيعون تقديم الكتب العربية بطريقة محببة بعيدا عن الضغط والإرغام، كذلك اعتمادها لغة تخاطب أساسية في ما بينهم، وتحاشي ترك المهمة للخادمات الأجنبيات اللاتي يساهمن سلبا في امتلاك اللغة الأم».

وفي حين يؤكد يزبك صعوبة اللغة العربية، لا سيما في ما يتعلق بالتشكيل، أي الحركات الكفيلة بتغيير الكلمة نفسها من معنى إلى آخر، فإنه يرفض العمل على تسهيلها، ويوضح: « كانت هناك محاولات كثيرة في هذا المجال، لكنها لم تنجح لأن هذه اللغة هي لغة القرآن، ولا يمكن التلاعب بأصولها وإلا فقدت قيمتها. لذا يجب العمل على رفع قيمتها في المجتمعات العربية عبر إدخالها في المستوى العملي والاعتماد عليها في الإعلام والإعلان ووسائل الاتصال».

كذلك يشدد على ضرورة إصدار قانون يلزم المؤسسات التعليمية، لا سيما الجامعات، بوضعها في سلم أولويات المواد التعليمية. ويرى أن المشكلة لا تنحصر في اللغة العربية، بل هي مأساة لغوية تعانيها كل دول العالم التي تلجأ شعوبها إلى اكتساب لغة بعيدة عن اللغة الأم والاعتماد عليها.