ألمانيا في الذكرى الـ 60 للتأسيس: من الدمار إلى الرخاء

النظام السياسي للبلاد بني على دروس من الماضي

سياح يقفون أعلى «برج الغاز » وهو مبنى مصنوع من الحديد و يستخدم لتخزين الغاز، في مدينة برلين و ينظرون الى برج التلفزيون الظاهر في الافق البعيد. وقد قامت الحكومة الالمانية بفتح برج الغاز الذي اكتمل بناؤه في عام 1910 امام الزوار (أ.ف.ب)
TT

كانت أثار الحرب لا تزال واضحة للعيان عندما تأسست ألمانيا منذ 60 عاما. كانت برلين والمدن الرئيسية الأخرى تتعافي من الدمار الذي أحدثه الديكتاتور النازي أدولف هتلر.

كان الملايين من الناس قد صاروا لاجئين وجرى تدمير حوالي 3.6 مليون منزل في غارات الحلفاء. وبعد أربع سنوات من استسلام ألمانيا وفق شروط متفق عليها، منحت فرصة لبدء مرحلة جديدة بدستور جديد أو «قانون أساسي» تأسست بموجبه جمهورية ألمانيا الاتحادية.

وعندما بدأ تطبيق القانون الأساسي في ألمانيا الغربية في 23 مايو (أيار) 1949، كان المقصود منه أن يكون دستورا مؤقتا لا يؤثر القرارات الخاصة بمستقبل ألمانيا الموحدة.

ومنذ ذلك الحين، نهضت ألمانيا لتصبح واحدة من أكثر الدول وزناً ورخاء في العالم، ودعامة للاتحاد الأوروبي حققت اقتصادا مزدهرا، حتى بدا الركود الاقتصادي العالمي يؤثر فيها منذ نهاية العام الماضي.

وعلى مدار عقود ظلت ألمانيا تشكل معجزة اقتصادية، ونجت من حالة الضبابية التي سادت فترة الحرب الباردة، وتوحدت من جديد مع الشطر الشرقي الذي قام كدولة منفصلة شيوعية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

واستفادت ألمانيا من خطة مارشال التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي حينها جورج مارشال، وتم بموجبها ضخ مبالغ نقدية ضخمة في مشروعات إعادة التعمير كنتيجة لتحول دول الاحتلال والدولة المحتلة إلى شركاء.

وأعادت ألمانيا بناء صناعتها ببطء، وبدأت إنتاج سلع للاستهلاك المحلي، وبعد ذلك لسوقها الأكبر في أوروبا. لكن سرعان ما وجدت نفسها من دون عمالة كافية لتلبية الطلب المتزايد على السلع.

وللتغلب على ذلك، قامت ألمانيا بتوظيف من يسمون «العمال الضيوف» من الخارج. وجاءت الدفعة من العمال الضيوف من إيطاليا في خمسينات القرن العشرين/ وأعقبها دفعات أخرى من دول مثل البرتغال وإسبانيا وتركيا.

ويقول جيوفاني دي لورينزو الذي قدم مع أسرته من إيطاليا وهو طفل، ويشغل حاليا منصب رئيس تحرير مجلة «دي تسايت» الرصينة، «كان لا يعرف أحدنا الكثير عن الآخر».

وأضاف دي لورينزو الذي يقدم برنامجا حواريا في التلفزيون، أن العمال الذين قرروا البقاء في ألمانيا ساعدوا على جعل ألمانيا «مجتمعا أكثر انفتاحا».

وبينما واصلت ألمانيا الغربية الاستمرار نحو الازدهار، كان الأمر مختلفا في ألمانيا الشرقية. وتوجه نحو ثلاثة ملايين شخص من ألمانيا الشرقية إلى الجزء الغربي بحثا عن حياة أفضل، ما شجع الحكام الشيوعيين على بناء حائط برلين عام 1961.

وعندما جاء المستشار ويلي برانت إلى السلطة عام 1969، بدأ إجراء حوار مع دول أوروبا الشرقية المنضوية تحت حلف وارسو، في خطوة وضعت حدا لبعض توترات الحرب الباردة. وحصل برانت على جائرة نوبل للسلام عام 1971، وأجبر على تقديم استقالته عام 1974 عندما ظهر أن مساعده الرئيسي كان جاسوسا من ألمانيا الشرقية.

واضطر خلفه المستشار هلموت شميت على التعامل ما وصف وقتها بأنه أكبر تحد يواجه ألمانيا الغربية وهو ظهور «منظمة الجيش الأحمر» وكانت حركة حرب عصابات يسارية.

وتبنت المنظمة التي عرفت أيضا باسم «عصابة بادر ماينهوف» على اسم مؤسسها أودريكا ماينهوف وأندرياس بادر، المسؤولية عن 34 عملية قتل طالت رجال أعمال بارزين وشخصيات عامة قبل حلها عام 1998.

وجاء المستشار هلمت كول ليخلف شميت في منصبه، وكان محافظا، وشكل تحالفاً وثيقاً مع شركاء ألمانيا في أوروبا خاصة فرنسا، وكان مهندسا بارزا في تقوية الاتحاد الأوروبي.

وشهدت ثمانينات القرن العشرين، بداية عملية تآكل الدول الشيوعية في أوروبا الشرقية، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى انهيار الستار الحديدي وسقوط حائط برلين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989. وبعد ذلك بـ 11 شهرا، توحدت ألمانيا بعد انقسام دام 41 عاما بقيادة كول، وحاز لقب «مستشار ألمانيا الموحدة».

وفي خلال عقدين تقريبا منذ الوحدة، شاركت ألمانيا بجنود في قوات حلف شمال الأطلسي «ناتو» في البلقان وأفغانستان، لكنها لم تشارك في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق في مارس (آذار) 2003.

وأجبرت ألمانيا على الأخذ بسلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الصارمة التي بدأ تطبيقها مع وصول أنجيلا ميركل إلى السلطة عام 2005، لتكون أول امرأة تتولى منصب المستشارية في ألمانيا.

وبينما تحتفل ألمانيا بالذكرى الستين لتأسيسها، تواجه ما وصفته ميركل بأكبر تحدٍ على الإطلاق، وهو التعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية التي تهدد عصب الحياة في ألمانيا وهو صادراتها.

وعلى أي حال، فإن قدرة ألمانيا على مواجهة ذلك التحدي، مثلما فعلت في الماضي، تعتمد على مهارة الحكومة وقدرتها على العمل معاً مع دول أخرى في عالم تسيطر عليه العولمة بشكل متزايد.

وسيلقي الاحتفال بالذكرى الضوء على الاضطرابات الاقتصادية وحالة الضعف السياسي التي ساعدت في مجيء هتلر إلى السلطة.

وقد دفع التراجع الدرامي في الاقتصاد الألماني القائم على التصدير والارتفاع المتوقع في حجم البطالة إلى عقد المقارنات مع الانكماش الاقتصادي الذي حدث بعد عام 1929 وخلق الأوضاع التي انتعشت فيها الايديولوجية النازية.

بل انه دفع مجلة دير شبيجل للخروج وعلى صدر صفحتها الأولى تساؤل، هل يعيد التاريخ نفسه؟».

وأثار زعيم نقابي ألماني ضجة الشهر الماضي عندما حذّر من أن البطالة يمكن أن تتسبب في «اضطرابات اجتماعية» وأشار إلى «العواقب المعروفة» للثلاثينات.

وقتها لم تفلح أحزاب جمهورية فيمار الهشة في تكوين أغلبيات مستقرة، ومن ثم فشلت في توحيد صفوفها للحيلولة من دون وصول هتلر إلى السلطة.

بيد أن اوسكار نايدرماير أستاذ العلوم السياسية بجامعة برلين الحرة، يقول برغم أوجه التشابه الاقتصادية فإن 2009 لن يكرر 1929.

ويعتقد أستاذ العلوم السياسية أن الديمقراطية الألمانية ناضجة الآن بدرجة كافية تسمح بتحمل الأزمة الحالية.

وقال نايدرماير «إن المعجزة الاقتصادية بعد الحرب ساعدت في تقوية التوجه الديمقراطي للشعب». مشيرا إلى حالة الرعاية الاجتماعية في البلاد التي تحول من دون العودة إلى الفقر الجماعي الذي ساد في الثلاثينات.

وأدى النظام السياسي الذي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية إلى ظهور حزبين كبيرين هما الحزب الديمقراطي المسيحي، وهو ينحو نحو يمين الوسط، والحزب الاشتراكي الديمقراطي ذو توجهات يسار الوسط.

وقد سيطر هذان الحزبان على بؤرة الحياة السياسية في ألمانيا، وركزا على القاعدة الانتخابية الرئيسية.

كما ساعدت العقبة القانونية المتمثلة في الحصول على 5 في المائة من أصوات الناخبين لدخول البرلمان في منع الأحزاب المتطرفة من دخوله. وحتى الآن منع هذا الحزب الوطني الديمقراطي الذي يتبني اتجاهات أقصى اليمين من الفوز، ولو بمقعد واحد في البوندستاج الألماني برغم انه اقترب من هذا الهدف أواخر الستينات.

وقد أرسى الحزب المسيحي الديمقراطي المحافظ نفسه كحزب موال للكنيسة وللقطاع الخاص.

كما صار الحزب الاشتراكي الديمقراطي حزب النقابات العمالية، ونحا نحو اليسار في حين ركز حزب التحالف المسيحي الديمقراطي على المسؤولية الاجتماعية، كما التزم باقتصاد سوق اجتماعي وهي سياسات اعتبرت أساسية في نجاح الاقتصاد الألماني.

ثم ظهر حزب ثالث هو الحزب الديمقراطي الحر، حيث ركز على الليبرالية الاقتصادية والحريات المدنية التي راقت لكثير من المهنيين من أبناء الشريحة العليا للطبقة المتوسطة. وتطور الحزب ليصبح صانع النجوم، فدخل في ائتلافات حكومية مع كل من الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي.

وفي عام 1980 شكل الخضر حزبا على المستوى القومي صارت له نسخ في بلدان عديدة. وبينما يتحرك الحزب نحو التيار الرئيس مبتعدا عن جذوره البيئية الأكثر تطرفا فإن نموه اقلق التوازن بين الأحزاب الثلاثة.ووجد الخضر حليفهم السياسي الطبيعي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، مما دفع الحزب الديمقراطي الحر إلى عباءة الحزب المسيحي الديمقراطي.

وقد اهتز كل هذا مرة أخرى عند إعادة توحيد شطري ألمانيا عام 1990. ومن بين رماد الحزب الاشتراكي الحاكم في شرق ألمانيا خرج حزب اليسار الذي ازدادت مصداقيته عندما غادر زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي أوسكار لافونتين الحزب وقاد حزب اليسار.وقبل الانتخابات العامة التي تجري في سبتمبر (أيلول) من العام الحالي، فإن الأحزاب الخمسة تشحذ مواقفها السياسية، وتضع عينها على بعضها البعض، فيما تستعد الأحزاب المؤتلفة المحتملة لتحل محل الائتلاف الموسع المكون من الحزب المسيحي الاجتماعي والحزب الاشتراكي الديمقراطي.

* تقرير لوكالة الأنباء الألمانية (د. أ. ب)