أوقات الشدة تطلق روح الإبداع

مع تراجع تعاقدات الشركات مع الفنانين جراء الأزمة الاقتصادية

تسدد ديان ليون ـ فيرديكو، الرسامة التجريدية التي تعيش بمنطقة كوينز، فواتيرها من خلال العمل كإدارية في جامعة نيويورك (نيويورك تايمز)
TT

حتى في ظل أفضل الظروف الاقتصادية، تعيّن على سوني هولاند بذل مجهود بالغ لكسب المال.

تعيش هولاند في سان فرانسيسكو، وكانت تشارك بالغناء في أي مكان بقدر استطاعتها، من حفلات موسيقية وحفلات تعقدها الشركات وتجمعات شعبية وحفلات زفاف، بل وفي شوارع المدينة. لكن الآن تراجعت تعاقدات الشركات معها على نحو بالغ جراء حالة الانحسار الاقتصادي.

لكن هولاند، 45 عاما، أعربت عن شعورها بأن الظروف الراهنة خلقت شعورا بالحرية داخلها، حيث أصبحت قادرة على التركيز على نمط الموسيقى الذي تعشقه بدلا من غناء مقطوعات «غيرشوين» و«بورتر»، التي عادة ما تطلب منها في الحفلات التي تقيمها الشركات. وبات بإمكانها غناء مقطوعات لـ«وينرايت» و«ديلان».

وتعد قصة هذه المغنية واحدة من مئات القصص التي انهالت على موقع صحيفة «نيويورك تايمز» على شبكة الإنترنت، استجابة لطلب بعض الفنانين الاشتراك في القصص حول طبيعة التأثير الذي خلفته الظروف الاقتصادية الراهنة على حياة وعمل الفنانين. ربما أكثر ما يلفت الانتباه بخصوص التعليقات العدد الكبير لأصحاب التعليقات المتفائلة رغم الأوضاع الاقتصادية المظلمة، وقد أعرب الكثير من الفنانين عن مشاعر شبيهة بتلك التي أعربت عنها هولاند، مشيرين إلى أن الركود عزز التزامهم بعملهم أو سمح لهم بالتركيز بدرجة أكبر على فنهم، نظرا لتضاؤل الفترة الزمنية التي كانوا يقضونها في الاضطلاع بمهام ثانوية، أو ربما شكّل مصدرا للإلهام الإبداعي.

من ناحيتها، بدأت ليز فالون، 30 عاما، الفنانة المعنية بالفنون التصويرية التي تعيش في بورتلاند بولاية مين، في بيع رسوماتها ولوحاتها لأفراد يحرصون على جمع الأعمال الفنية في أثناء دراستها الجامعية. وعلى مدار قرابة عام لم تبِع فالون عملا فنيا أصليا واحدا، إلا أن فالون تعتقد أن منطقة بورتلاند تشهد نهضة فنية مع تكون مجموعات متنوعة، مثل المعنيين بالتصوير الفوتوغرافي وجامعي الرسومات الفنية، بهدف ربط المهنيين الإبداعيين بعضهم ببعض.

وفي تعليقها كتبت فالون: «بالنسبة إلي، تحررت من قيود إبداع عمل ما من أجل مشترٍ محدد. لقد عاينت موجة جيشان في قدراتي الإبداعية وزاد إنتاجي بصورة كبيرة عن المعدل المعتاد، ومع أنني لا أزال أحبذ الحصول على مال مقابل أعمالي، لكن الحاجة إلى التمتع بمستوى أعلى من الابتكار خلفت تأثيرا إيجابيا على المجتمع الفني من حولي».

وفي إطار لقاء لاحق أجري معها، قالت فالون إنها تعول نفسها من خلال العمل كممثلة في مجال خدمة العملاء في شركة تعنى بالتسويق المباشر، وإن نقص الالتزامات الملقاة على عاتقها مكنها من الشروع في مشروعات جديدة، مثل وضع رسومات للأعمال الأدبية الكلاسيكية الموجهة إلى الأطفال. وعلقت على الأمر بقولها: «لا يريد أحد مني شيئا، لذا أفعل ما يروق لي».

بصورة عامة، عكست الكثير من الرسائل التي وردت إلى الموقع الإلكتروني شعورا بالتصميم، وقناعة بضرورة العمل بجد على خوض الظروف العصيبة الراهنة، وتحقيق أكبر استفادة ممكنة منها.

وعلى سبيل المثال، كتبت كادين نافارو، الفنانة التي تعمل في نيويورك وأمستردام، عن الأزمة الاقتصادية قائلة: «إنها تخلق بداخلي الرغبة في المضي قدما في مهنتي كفنانة بقوة أكبر عن أي وقت مضى. أعتقد أن الفنانين مؤهلون على نحو جيد للتعامل على نحو إبداعي مع مثل هذه المواقف، وبقليل من الإصرار والتفاؤل يمكننا تحويل هذا الركود إلى نقطة قوة».

وأعربت نافارو عن أملها في أن تقضي الضغوط الاقتصادية على «الفن الموجه حسب السوق الذي تنتجه الغالبية». وفي إطار محادثة هاتفية أجريت معها في وقت لاحق، قالت نافارو إن عملية التمحيص تلك كانت بمثابة اختبار لمدى إخلاصها لفنها. واستطردت موضحة أنها: «تخلق لدي الرغبة في العمل بجد أكبر وتخصيص مزيد من الوقت لفني، وتعزز تفهمي لمسألة أنه ليس طريقا ممهدا، ومع ذلك لم أزل أؤمن به».

في الوقت ذاته كان هناك الكثير من الردود الأخرى التي تحمل قدرا كبيرا من اليأس. مثلا، كتبت جامي جينوس، المصورة التي تعمل في كليفلاند: «إن الأمر بشع للغاية. إن المهام الموكلة إلي في أدنى مستوياتها على الإطلاق، وتتسبب إجراءات خفض الميزانية وتسريح العمالة وفقدان الوظائف في القضاء علينا جميعا، نحن معشر المصورين غير المتعاقدين».

وقالت ستيفاني سترتون، 24 عاما، من ديترويت، إنها ترزح تحت وطأة ديون تتجاوز 75000 دولار بسبب القروض الدراسية، وعاجزة عن العثور على وظيفة لجزء من الوقت، وتعمل حاليا متعاقدة لحساب الكلية التي تخرجت فيها وتشارك في تقديم دروس فنية في فترة ما بعد المدرسة. وأكدت في رسالتها أن: «الأوضاع الاقتصادية شديدة السوء هنا في ديترويت بميتشغان، لدرجة أن الناس لم تعد تشتري أعمالا فنية، حيث لم يعد باستطاعتها ذلك. وعليه لم أعد أعتمد على أعمالي الفنية في كسب المال، وأعمل حاليا في تدريس صنع الفخار بمعظم المدارس العامة في ديترويت، التي بدأت إغلاق أبوابها».

واستطردت موضحة: «إنني رسامة، ولا أعتمد في عملي حتى على الصلصال». وفي محادثة لاحقة أجريت معها قالت سترتون إنها عادت إلى الدراسة مجددا، حيث تتلقى دروسا في الأعمال التجارية وتهيئ نفسها حاليا لتغيير مسار حياتها المهنية. وأضافت: «يبدو أن الجميع يرغبون في الحصول على متدربين لا يحصلون على أجر أو متطوعين. ورغم رغبتي الكبيرة في العمل التطوعي فإنني بحاجة أيضا إلى تسديد فواتيري».

في الإطار ذاته أشار كارل ألين، 29 عاما، المدير الفني السابق بمنظمة «برفورمانس سبيس 122» القائمة في مانهاتن، إلى أن تراجع أعداد الأعمال الفنية المسرحية أدى إلى تقلص عمل فرق العمل الفني المسرحي في نيويورك، وأوضح أن هذا العمل شكّل مصدر رزق الكثير من الأشخاص من معارفه. واستطرد قائلا: «لكن الآن وبسبب تضاؤل فرص العمل بين مسارح وسط المدينة التي تواجه بالفعل ظروفا صعبة (وهكذا حالها دوما)، لم يعد أمامي سوى التقدم بطلب لتسجيل نفسي بين العاطلين».

وقال ألين إنه عمل على إعالة نفسه من خلال الاضطلاع بمهام غير اعتيادية، مثل القيام بأعمال نجارة وتجديد بشقق أصدقائه. لكنه يعكف حاليا على إعادة النظر في المستقبل. وقال: «لقد أثار هذا الوضع الكثير من التساؤلات حول ما أفعله وما إذا كنت أرغب في الاستمرار في القيام به. في الواقع لست مؤهلا للقيام بأي شيء آخر، لذا سأضطر إلى العودة إلى الدراسة. لا أرى إمكانية للحصول على مصدر دخل ثابت في المستقبل القريب، ولا أعتقد أن بإمكاني الاستمرار على هذا النحو». وأضاف: «أحب عملي، لكن ما يحزنني أنه ليس باستطاعتي تكسّب المال حاليا».

ورغم ذلك سيطر على الكثير من الردود الواردة من فنانين شعور بالثبات والعزيمة، علاوة على شعور بالارتياح. على سبيل المثال، كتب ألكسندر كونر، 22 عاما، الذي تخرج حديثا في الجامعة ويعيش في فيلادلفيا: «أشعر بالفخر لتمكني من العيش على نحو مقتصد والعمل».

يذكر أن كونر يعمل أمينا في «أدابتيشن»، وهي منظمة صغيرة تعنى بالمعارض الفنية. وأضاف: «ليس لدي القدرة على القيام بكل ما أرغب فعله، ولا لدي القدرة على ابتكار أعمال بالقدر الذي أوده من التعقيد بسبب القيود المالية، ومع ذلك فإن هذه الفترة تمنحني الفرصة صقل أدائي». واستطرد قائلا: «أتقدم بطلبات للحصول على منح، وتلقي دروس في برمجة المعارض والفنون العامة، ويسعدني الانتظار. إن الحصول على أي شيء قيم يتطلب العمل الجاد والانتظار لبعض الوقت».

وخلال محادثة هاتفية أوضح كونر أنه يتكسب قوته من خلال العمل بمتحف فيلادلفيا للفنون في قسم التسويق عبر الهاتف، وكمساعد بقسم القبول في المركز الطلابي. وقال: «أتفحص المجموعات المدرسية، وأعمل على ضمان استعدادهم للجولات، وأشاهد الطلاب يتحدثون عما رأوه. إنه أمر لطيف».

يذكر أن كونر يعيش في شقة مع فنان آخر، ويبلغ نصيبه من الإيجار 475 دولارا شهريا. ونظرا لعشقه للطهي يقوم كونر بجولات تسوق في محال البقالة في السوق الإيطالية المحلية ويطهو معظم الوجبات التي يتناولها، لدرجة أنه يصنع الخبز الذي يأكله، الأمر الذي يسمح له بالعيش بميزانية تقدر بـ12.000 دولار سنويا. وعلق على الوضع بقوله: «منذ سن مبكرة علمني والدي أن أعيش في حدود قدراتي المادية».

وقال لانس هورن، 31 عاما، وهو ملحن وشاعر غنائي، إنه يشعر بالسعادة لتوافر المزيد من الوقت لديه لخدمة القضايا الخيرية. جدير بالذكر أنه سافر إلى لوس أنجليس لعزف البيانو في إطار «غلاد ميديا أوردز» وألّف أغنية عن زواج المثليين لصالح «غاي منز كورس أوف لوس أنجليس». وقال: «لقد سرت عبر سنترال بارك مرتين هذا الأسبوع وعدت بأغنيتين».

وأضاف هورن، الذي يقوم أيضا بتدريس علم الأصوات والبيانو والتلحين، في لقاء لاحق عقد معه، أن طلابه تضاءل عددهم بمقدار النصف على الأقل، ومع ذلك لا تزال روحه المعنوية مرتفعة. وقال: «الأمر لا يعدو كونه تغيرا عما كنت أتوقع الحصول عليه من العمل. لم يعد العمل قادرا على تسديد فواتيري بالصورة التي كان عليها الحال في الماضي، لكن زاد قدر استمتاعي به».

وأعرب عن اعتقاده بأن العامة يشتاقون لرؤية الأعمال الفنية على نحو جديد، ذلك أنه «أصبح لديهم مزيد من الوقت للمشاهدة والإحساس بالأشياء».

من جانبها تسدد ديان ليون ـ فيرديكو، 63 عاما، الرسامة التجريدية التي تعيش بمنطقة كوينز، فواتيرها من خلال العمل كإدارية بقسم الدراسات العبرية واليهودية في جامعة نيويورك. وأكدت على أن الفنانين يجب أن تتوافر لديهم خطة إضافية للدعم، لكن لا ينبغي في الوقت ذاته أن يتخلوا عن فنهم. وكتبت عن فنها تقول: «لقد قمت بذلك طيلة حياتي وتمتعت بحياة جيدة متوازنة»، وأضافت: «هذه الفترة ستمر، ويجب على الفنانين الاستمرار في الإبداع مهما جرى حولهم».

وأشارت ليون ـ فيرديكو إلى أن الإحباط ينتابها في بعض الأحيان بسبب قضائها كثيرا من الوقت بعيدا عن عملها الفني، لكنها تتغلب على ذلك بالنظر إلى الصور المعلقة على جدران مكتبها التي رسمتها لمنطقة أليكانتي في إسبانيا، حيث تملك شقة منذ عام 1970. وأضافت أن وظيفتها تتيح لها إمكانية قضاء خمسة أسابيع كل صيف في الماء. وأكدت ليبي غيلباتريك، 68 عاما، في ردها على أن فنها هو الذي يساعدها على تحمل أوقات عصيبة كتلك التي تمر بها حاليا، وقالت: «رغم وجود القلق فإن الرسم يريح الأعصاب بدرجة أكبر عن عدم الرسم». وأضافت: «إضافة إلى مالكي المعرض، لا يزال الأمل يراودني في أن تتبدل الأوضاع».

* خدمة «نيويورك تايمز»